ملك الفرات
ملحمة في رثاء أبي الفضل العبّاس (عليه السلام)
مهدي سهم الربيعي
ملكَ الفراتَ ولم يَذقْهُ ترفُّعا
وسقى الوفاءَ لواؤهُ المتلوِّعا
خاضَ الوغى، والسيفُ في كفّيهِ قد
أنكى الجموعَ، ومزّقَ المتجمّعا
يمشي إلى الميدانِ، صمتُ جلالهِ
أبلغُ من الخطبِ التي لا تُسمَعا
ومضى يَسقيَ عسكراً متلهفا
فأتى الفراتَ، وجيشُهُ يتتبّعا
نظرَ المياهَ، فسال دمعُ جراحِهِ
وغدتْ يداهُ على العطاشى مَرْجِعا
ما شربَ العبّاسُ رغمَ جراحِهِ
بل آثرَ السُقيا، وكانَ مُوجِعا
حتى إذا قُطعتْ يميناهُ العُلى
ظلَّ اللواءُ بكفهِ لا يُرجعا
يا سادنَ التضحيةِ الكبرى، ومن
ركبَ المدى جُرحاً ونالَ الأرفعَا
تبكيكَ أرواحُ الشموخِ، وتحتفي
بك كربلاءُ، ويستحيكَ المدمعا
…
…
ومضى إلى الميدانِ يمسحُ دمعَهُ
فالشوقُ للهيجاءِ فيهِ تجمّعا
قالَ الحسينُ.. أخي، تمهّلْ ساعةً
فالركبُ بعدكَ لا يطيقُ تروّعا
من لي إذا سقطَ اللواءُ؟ ومن سَوى
كفَّيكَ يحملُ عزَّنا متدرّعا
من للطفوفِ إذا انكفأْتَ، ومنْ لِمن
يبكيكَ إن غابَ الظلامُ مُفجِعا
فأجابهُ العبّاسُ .. يا نورَ الدُجى
يا مهجتي، يا سرَّ روحيَ أجمعا
أنا ابنُ حيدرَ، والوفاءُ هويّتي
إن متُّ لا أرضى الحسينَ مُودَّعا
…
…
شقَّ الجموعَ كأنَّهُ سيفُ السما
والنارُ تهربُ إن بدتْهُ موقِعا
حتى إذا بلَغَ الفراتَ تفكَّرتْ
عيناهُ، لم يشربْ، وكانَ مُضيِّعا
رشفَ الترابَ، وقال: كيفَ أُرويَ؟!
وحسينُ قلبي عطشهُ قد أوجعا
عادَ الورى والماءُ يقطرُ منهُما
كفَّانِ قد بذلَتْ رضاً مُتقطّعا
ضربوهُ من خلفهِ، فتقطعت
يداهُ، لكنّ اللواءَ ترفّعا
نادى ..أخي، أدركْ أخاكَ، فإنني
قد مُزِّقَتْ منّي الحياةُ مَصْرَّعا
…
…
أقبلَ الحسينُ، وقلبُهُ متكسّرٌ
خطواتُهُ نارٌ، وجفنُهُ مُدمَّعا
نظرَ اللواءَ، ولم يَرَ الكفَّينِ، بل
رأى الوفاءَ ممدّدًا ومُقطَّعا
قال: أخي، يا سندَ اليتامى، والندى
من بعدِكَ الطفلُ البريءُ تجزّعا
يا كسرَ ظهري، بل فُؤادي ماجَ بي
لو خيروني، كنتُ عنكَ المُجزَعا
…
…
يا من ملكتَ الطفَّ مجداً خالصاً
وبنيتَ بالدمِ للعقيدةِ موضعا
رفعتْ يمينُكَ رايةً لا تنحني
ومضى فؤادُك في الحسينِ تشيّعا
كفّاكَ لم تسقِ الحسينَ، ولكن
سقتِ البطولةَ دَمعَنا المتقطّعا
نمْ في ثراكَ، فإنّ صوتكَ لم يزلْ
صدىً يُدوّي في القلوبِ مفزّعا
===================