النظام السوري الجديد بعد حكم دكتاتورية عائلة الأسد: إلى أين؟
وليد الحيالي
منذ أكثر من نصف قرن، شهدت سوريا واحدة من أطول الديكتاتوريات في العالم العربي، حيث أسّست عائلة الأسد لنظام سلطوي مركّب، جمع بين السلطة الأمنية المطلقة، والفساد الاقتصادي الممنهج، والقمع السياسي الشامل. لم يكن هذا النظام مجرد سلطة شمولية، بل تجربة استبدادية فريدة في قدرتها على البقاء عبر الأزمات، متحوّلًا من حكم الحزب الواحد إلى حكم العائلة الواحدة، ثم إلى دولة الطائفة، فالدولة الممزقة بوصايات أجنبية.
جاء حزب البعث إلى الحكم في انقلاب 8 مارس 1963، لكن مرحلة حافظ الأسد بدأت بانقلابه في 16 نوفمبر 1970، فيما عُرف بـ”الحركة التصحيحية”. ومنذ ذلك الحين، أعاد الأسد الأب تشكيل الدولة وفقًا لمعادلة سلطوية قائمة على الأجهزة الأمنية المتعددة، والجيش المعاد تشكيله على أسس طائفية، وحزب البعث كواجهة رمزية خاضعة.
أسّس الأسد الأب ما يشبه “دولة الرعب”، حيث صودرت السياسة من المجتمع، وتمّ عسكرة الدولة وتكميم الصحافة وتدمير النقابات واستئصال المعارضين. من أبرز المحطات الدموية:
• مجزرة سجن تدمر (1980)، التي قُتل فيها مئات المعتقلين السياسيين خلال ساعات.
• مجزرة حماة (1982)، التي أسفرت عن مقتل أكثر من 20 ألف مدني وتدمير أحياء بأكملها.
مع وفاة حافظ الأسد عام 2000، انتقل الحكم إلى ابنه بشار بطريقة وراثية، بعد تعديل الدستور خلال دقائق لخفض السن القانونية للرئاسة. رُوّج في البداية لـ”رئيس شاب” يحمل مشروع إصلاح، لكن سرعان ما ظهر أن المنظومة الأمنية هي الحاكم الفعلي. قُمعت محاولات الإصلاح كما حدث في “ربيع دمشق”، وازداد الاعتماد على اقتصاد ريعي فاسد تركز في يد العائلة، وخصوصًا رامي مخلوف، ابن خال بشار.
في عام 2011، خرج السوريون مطالبين بالحرية والكرامة، ضمن موجة الربيع العربي. لكن النظام واجههم بالعنف الدموي، فتحوّلت الاحتجاجات إلى نزاع مسلح، ثم إلى حرب أهلية، ثم إلى صراع إقليمي ودولي. أصبحت سوريا ساحة نفوذ متضاربة، حيث تهيمن إيران وروسيا على القرار المركزي، بينما تسيطر تركيا وأمريكا وفصائل أخرى على أطراف البلاد.
اليوم، لا يمكن الحديث عن سوريا كدولة ذات سيادة كاملة. فالخريطة الميدانية تُظهر تقسيمًا واقعيًا:
• دمشق والمناطق الغربية تحت سيطرة النظام بدعم روسي وإيراني.
• إدلب بيد فصائل المعارضة المسلحة، أبرزها “هيئة تحرير الشام”.
• شمال وشرق سوريا تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة من واشنطن.
• الجنوب يشهد تمردًا شعبيًا متصاعدًا، خاصة في السويداء ودرعا.
في ظل هذا المشهد، يُطرح السؤال الجوهري: ما مصير النظام السوري الجديد؟ وإلى أين تتجه البلاد؟
هناك عدة سيناريوهات محتملة:
1. الاستمرار المشلول: يبقى النظام شكليًا، لكن الدولة منهارة وظيفيًا؛ لا اقتصاد، لا خدمات، ولا سلطة حقيقية خارج العاصمة.
2. تسوية دولية كبرى: قد تُفرض عبر توافق روسي-أمريكي-إقليمي لبدء مرحلة انتقالية، لكنها تصطدم بتعقيدات المصالح الإقليمية والملف الحقوقي.
3. تفكك الدولة نهائيًا: إذا انسحب الدعم الخارجي أو اشتدت الصراعات الداخلية، قد تتحول سوريا إلى مجموعة كيانات جغرافية مستقلة de facto.
4. تحوّل من الداخل: عبر إصلاح تدريجي أو انشقاقات داخل النظام، وهو احتمال ضعيف في ظل القبضة الأمنية والسيطرة الطائفية.
تكلفة بقاء النظام لم تكن سياسية فقط، بل إنسانية واقتصادية هائلة:
• مقتل نحو 600 ألف إنسان.
• تهجير أكثر من 13 مليون سوري بين نازح ولاجئ.
• خسائر اقتصادية تجاوزت 226 مليار دولار.
• دمار واسع للبنية التحتية والتعليم والصحة.
ومع كل هذا، يبقى الأمل في بناء سوريا جديدة. فهناك جيل سوري جديد نشأ في المهجر يحمل أفكارًا بديلة عن الدولة، وهناك مجتمع مدني ناشئ يحاول تأسيس ثقافة قانونية وحقوقية مستقلة. وهناك توثيق دقيق لجرائم الحرب (كما في محكمة كوبلنز في ألمانيا) مما يعزز مبدأ المحاسبة وعدم الإفلات من العقاب.
لكن التحدي الأهم لن يكون فقط في إسقاط رأس النظام، بل في إعادة بناء الدولة من الأساس: دولة قانون ومواطنة وعدالة اجتماعية، لا دولة طوائف ومربعات أمنية. سوريا الجديدة لن تولد من رماد الخراب إلا بإرادة السوريين أنفسهم، حين ينهضون من تحت الركام، لا لينتقموا، بل ليبنون.
“سوريا لن تكون حرة حين يسقط الطاغية فقط، بل حين تنتصر الحقيقة والعدالة في وجدان شعبها.”
⸻
المراجع
1. نيقولاوس فان دام، الصراع على السلطة في سوريا، 1981.
2. منظمة العفو الدولية، سوريا: إرث من الرعب، 1983.
3. فريد زكريا، الربيع العربي ومأزق الدولة العميقة، فورين أفيرز، 2012.
4. البنك الدولي، تكلفة الحرب في سوريا، 2017.
5. المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، تقارير اللاجئين السوريين، 2023.
6. معهد الشرق الأوسط، سيادة سوريا المجزأة، 2024.
7. المركز السوري للعدالة والمساءلة، تقارير محاكمة أنور رسلان، 2022–2023.