بيتٌ بلا حكمة…وسيادة بلا مختبر
إسماعيل محمود العيسى
لم تنهض أمة في التاريخ إلا حين جعلت من العلم خيارها الاستراتيجي الأول، وهكذا فعلت الدولة العباسية في ذروة قوتها حين أسّست “بيت الحكمة” في بغداد، لا كمخزن للكتب، بل كمؤسسة علمية متكاملة تمزج بين الترجمة والتأليف والتجريب والتطبيق، في ذلك المركز اجتمع المترجمون والعلماء والأطباء والفلاسفة؛ وأسّسوا نهضة معرفية ساهمت في بناء الحضارة الإسلامية ورفد الإنسانية بأصول العلم الحديث.
بعد قرون يقف العراق على النقيض تمامًا؛ فـ”بيت الحكمة” نفسه بات اليوم مؤسسة شكلية؛ غائبة عن مشهد البحث العلمي؛ ومجرد كيان إداري تستهلكه البروقراطية والمجاملات؛ ولا تنتج علمًا يقابل ما يُنفق عليه من المال العام؛ وهذا المثال ليس استثناءً؛ بل يعكس أزمة منهجية عميقة تعانيها معظم المراكز البحثية في العراق، والتي تحوّلت في كثير من الحالات إلى واجهات اسمية لا تضطلع بوظيفتها المعرفية المفترضة، ولا تقدم عائدًا علميًا ملموسًا.
هذه المراكز بما في ذلك ما هو تابع للوزارات والمؤسسات السيادية، تعاني من ضعف البنية التحتية، وقصور في المختبرات، وغياب الرؤية، وتراجع الكفاءة الإدارية والعلمية؛ ولا تزال الأطاريح الجامعية المتميزة حبيسة الأدراج، ولا تجد مشاريع التخرج طريقها للتطبيق، بل تبقى حبرًا على ورق في غياب التكامل بين المؤسسات الأكاديمية ومراكز القرار.
في المقابل، يشهد العالم من حولنا ثورة تكنولوجية غير مسبوقة، تُوظف في شتى الميادين، وعلى رأسها ميادين الأمن والدفاع والسيادة؛ وقد كانت الحرب الأخيرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، أوضح مثال على تحوّل الحروب إلى مختبرات للذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيّرة، والهجمات السيبرانية، ونظم الإنذار الذكي، لقد خيضت تلك الحرب بالتقنيات لا بالجنود فقط، وأُديرت ببرمجيات متقدمة لا بالخطب والتحشيد.
أظهرت هذه الحرب أن التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة مساعدة، بل أصبحت فاعلًا حقيقيًا في مسار الأحداث؛ فقد تم استخدام الذكاء الاصطناعي في تحديد الأهداف، وتشويش الرادارات، والتشخيص اللحظي للبيانات، والهجمات السيبرانية التي استهدفت البنى التحتية للخصوم، أما في العراق فواقع البحث العلمي والتقني لا يزال بعيدًا جدًا عن هذه التحولات، بل يكاد يكون خارج دائرة الفعل.
فالعراق لا يملك حتى الآن منظومة وطنية متكاملة للبحث الأمني أو الدفاعي أو السيبراني، ولا توجد مراكز بحثية متقدمة في الذكاء الاصطناعي أو التكنولوجيا الحيوية أو الطاقة النظيفة، والمختبرات الجامعية تعاني من الإهمال، وغالبًا ما تفتقر لأبسط أدوات التحليل أو الفحص، فضلاً عن الأجهزة المتقدمة.
إن هذا الوضع لا يهدد التنمية فحسب، بل يهدد مفهوم السيادة نفسه، إذ لا يمكن أن نتصور عراقًا آمنًا ومستقرًا دون قاعدة معرفية صلبة، فالعقل هو السلاح الأول، والمعرفة هي الحدود التي تُرسم بها هوية الدولة، ولهذا؛ فإن العراق بحاجة فعلية إلى إطلاق ما يمكن تسميته “ثورة علمية”، لا ترقيعية، تبدأ بإعادة هيكلة المنظومة البحثية كلها، من حيث التمويل، والبنية التحتية، وربط المخرجات العلمية بالاحتياجات الوطنية الفعلية.
ومن هنا، نوجه دعوة صادقة إلى صُنّاع القرار في العراق:
ليُعاد النظر في المؤسسات التي لا تُنتج، وليُستثمر في العقول بدل العناوين، وليتحول “بيت الحكمة” من مركز إداري جامد إلى مختبر حيّ ينبض بالعلم، وقبلة للباحثين من داخل العراق وخارجه.
إن بناء الدولة الحديثة لا يكون بالشعارات ولا بالموازنات وحدها، بل بخلق بيئة معرفية قادرة على إنتاج الحلول، ومواجهة التحديات، وتحويل العلم من رفاه ثقافي إلى أداة بقاء وتقدّم.
فالعراق إما أن ينهض بعقله، أو يظل أسيرًا لماضيه.