الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
مارك سافايا.. المبعوث الذي يوقظ جراح العراق

بواسطة azzaman

بين الشك واليقين

مارك سافايا.. المبعوث الذي يوقظ جراح العراق

حامد الضبياني

 

منذ أن أعلنت الإدارة الأميركية عن تعيين مارك سافايا مبعوثًا خاصًا إلى العراق، اشتعلت الأحاديث في المقاهي السياسية، وارتفعت الأصوات في الفضاءات الرقمية، كأنّ الرجل سيحمل معه عصا موسى ليشقّ بحر الميليشيات إلى نصفين، أو لعله سيصبح وجهًا جديدًا في مسرح الصراعات القديمة التي لم تملّ من تبديل الممثلين والإبقاء على النص ذاته. فالعراقيون، الذين أنهكتهم الوعود الدولية والمبعوثون العابرون كغيوم الصيف، ينظرون بعين الريبة إلى كل قادم من وراء الأطلسي، مهما رفع شعار الإصلاح أو أعلن حربًا على الفساد والسلاح المنفلت.لكن سافايا ليس مبعوثًا عاديًا في نظر واشنطن، بل هو حجر آخر في رقعة الشطرنج التي تتحرك عليها القوى الكبرى في العراق منذ سقوط الدولة وتفتت السيادة. مهمته المعلنة ـ القضاء على العناصر المسلحة وإنهاء نفوذ الميليشيات ـ تُخفي خلفها شبكة معقدة من الحسابات السياسية والصفقات المؤجلة، لأنّ العراق لم يعد ساحة معركة بين الدولة والفوضى فحسب، بل ميدانًا لموازين القوى بين الشرق والغرب، بين واشنطن وطهران، بين حلم الدولة الوطنية وكابوس الدولة التابعة.ولأنّ العراقيين مجروحون بالتجارب، يتوجسون من أن يتحول سافايا إلى نسخة أخرى من مبعوثين مرّوا قبله، دخلوا بخطاب الحزم وانتهوا إلى مهادنة الميليشيات أو التحالف معها باسم "الواقعية السياسية". فسرعان ما تسرب إلى الأسماع همسٌ يتحدث عن علاقة محتملة بينه وبين ريان الكلداني، زعيم ميليشيا "بابليون"، وكأنّ التشابه المذهبي بينهما كافٍ لمدّ جسرٍ من الولاءات الطائفية فوق نهرٍ من الدماء. هذا التصور الساذج، وإن بدا شائعًا في أوساط البعض، يكشف هشاشة الوعي العام حين يختزل السياسة في الهوية الدينية، وينسى أنّ واشنطن، التي صنّفت ريان إرهابيًا وفرضت عليه عقوباتٍ قاسية، لا يمكن أن ترسل مبعوثًا يتعاون مع من تضعه على قوائم الإرهاب.مارك سافايا ليس كاردينالًا ولا واعظًا يحمل إنجيل السلام بين الطوائف، بل هو رجل سياسة ومخابرات، مهمته ليست في الكنائس بل في دهاليز السلطة والأمن، في فكّ عقدة السلاح التي باتت تخنق الدولة العراقية وتشلّ إرادتها. إنّه يدرك، كما تدرك بلاده، أن لا استقرار في العراق ما دامت البنادق تتحدث قبل الدساتير، وما دام الولاء للولي الفقيه أقوى من الولاء للعَلم الوطني. لذلك جاء، لا ليبني تحالفات طائفية، بل ليعيد ترتيب أوراق اللعبة من جديد وفق المصالح الأميركية التي ترى في ضعف الميليشيات تقويةً للدولة، وفي القضاء على النفوذ الإيراني خطوة نحو عراق متوازن لا تابع.غير أن السؤال الأعمق يظل معلقًا في فضاء الوعي العراقي: هل يمكن لمبعوثٍ أجنبيٍ أن ينقذ وطنًا غرق في تناقضاته الداخلية؟ هل يكفي أن تأتي الأوامر من البيت الأبيض ليُشفى الجسد العراقي من جراحه التي نزفت طيلة عقدين؟ أم أن العلاج الحقيقي يبدأ من الداخل، من وعي العراقي نفسه، من مصالحةٍ مع ذاته ومع تاريخه، قبل أن يطلب المصالحة مع العالم؟..الذين يخشون انحراف مهمة سافايا نحو المحاباة الدينية يغفلون عن أن الكنيسة الكلدانية نفسها تقف على الضفة الأخرى من ريان الكلداني، وأنّ بطريركها لويس روفائيل ساكو كان ولا يزال الصوت المسيحي الأرفع في الدفاع عن وطنٍ واحدٍ يحتضن الجميع دون تمييز. فلو كان الانتماء المذهبي معيارًا للعلاقات السياسية، لكان سافايا أول المتحالفين مع الكاردينال ساكو لا مع زعيم ميليشيا مدعوم من طهران. الحقيقة أنّ الطائفية لم تكن يومًا سوى أداة في يد المفسدين، يرفعونها لستر خياناتهم حين يعجزون عن مواجهة ضوء الحقيقة.ومع ذلك، تبقى مهمة سافايا محفوفةً بالألغام. فالميدان العراقي ليس رقعةً نظيفة يمكن ترتيب أحجارها بسهولة، بل ساحة ملغومة بالتحالفات والمصالح والدماء القديمة. كل خطوةٍ فيها تحتاج إلى يقظةٍ تشبه الحذر في السير فوق الزجاج المكسور. وإن كان للرجل من نيةٍ حقيقية في إعادة التوازن، فعليه أن يصغي إلى صوت الشارع قبل أن يصغي إلى تقارير السفارة، أن يرى في العراقيين شركاء لا أدوات، وأن يدرك أنّ أي مشروع لا يستند إلى إرادة وطنية حقيقية، مهما بدا براقًا في واشنطن، سيتحول هنا إلى رمادٍ في رياح الشرق.مارك سافايا يدخل اليوم إلى عراقٍ مثقلٍ بتراث الجراح، وكل مهمةٍ فيه تُختبر بالنوايا قبل النتائج. سيحكم عليه الناس لا بما يقوله الإعلام، بل بما تفعله يداه على الأرض، في مواجهة الفساد، وفي كبح الميليشيات التي استباحت دماء الأبرياء، وفي إعادة شيءٍ من الهيبة إلى الدولة التي ذابت ملامحها بين الولاءات المتناقضة. فإن استطاع أن يمسك بخيوط المعادلة الصعبة، فربما يكون أول مبعوثٍ أميركي يترك بصمةً لا تندثر مع تبدّل الإدارات. وإن سقط في فخ الحسابات الضيقة والمصالح المزدوجة، فلن يكون سوى صفحةٍ أخرى في كتاب الخيبات الطويل الذي كتبه التاريخ على وجه هذا البلد منذ أن هُدمت بواباته الملوّنة ودخلت رياح الغرب والشرق معًا.هكذا سيبقى السؤال معلّقًا في سماء بغداد: هل سيأتي سافايا بمفاتيح الخلاص أم بمفاتيح صندوقٍ جديدٍ من الفوضى؟ وحدها الأيام كفيلة بأن تجيب، أما العراق فسيبقى، رغم كلّ ما يقال، البلد الذي لا يموت، لأنّ في ترابه سرًّا لا يدركه إلا من عشق هذه الأرض حدّ العذاب.


مشاهدات 55
الكاتب حامد الضبياني
أضيف 2025/10/21 - 4:23 PM
آخر تحديث 2025/10/22 - 1:47 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 86 الشهر 14611 الكلي 12154466
الوقت الآن
الأربعاء 2025/10/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير