التأصيل الحداثي للذات التراثية
رسالة الحسن
التراث هو الموروث الثقافي والديني والفكري والأدبي والفني، وكل ما يتصل بالحضارة أو الثقافة كالقصص والحكايات والكتابات وتاريخ الأشخاص والقيم، وما عبر عن ذلك من عادات وتقاليد وطقوس ومفهوم التراث لم يعد ينحصر فيما «تحتويه المتاحف والمكتبات من أثار تعد جزءا من حضارة الإنسان أو أنه "ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وفنون وعلوم في شعب من الشعوب" بل صار هذا المصطلح وثيق الارتباط بأنماط السلوك البشري الراهن، وبالحياة الحضارية للأفراد والأقوام والجماعات، وبكل ما له صلة بوجود الإنسان الحي على سطح هذه المعمورة من أنظمة وقيم ودساتير ومعتقدات ووسائل العيش وإمكانات التصور ونحو ذلك».، فالتراث لا يحصر في ثقافة معينة أو حضارة ما إنما هو عام وكل متكامل لا ينفصل بعضه عن بعض، إنه كل ما يتركه الأول للأخر ماديا ومعنويا، وهذه نظرة شاملة للتراث باعتباره الماضي المؤثر في الحاضر والمستقبل، غير أنه لا يجب أن نفهم بأن التراث هو كل ما خطه الأقدمون وحفظته الصفحات السوداء، لأن التراث عند الشاعر هو ما يحبه من هذا الذي خطه الأقدمون وحفظته الصفحات، فيختار النماذج الصالحة للتفاعل ليؤسس رؤیاه ورؤيته. ومن هذه الرؤية الجديدة يبدع شعره الجديد، فالإبداع تواصل مع التراث وانقطاع عنه معا، ارتباط به وثورة على الفاسد
لقد جاءت معالجة الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي في سياقات كثيرة، انطلاقاً من واقع الاختلاف الذي حكم زوايا النظر، وكذا مسألة المنهج من لدن المفكرين والباحثين، وحكمت بالتالي حدود وطبيعة محاكمتهم للموضوع، مع أن مناهجهم المتداولة، جعلتهم يقعون في التصنيف التقليدي الذي قلّما نجد كتاباً في الفكر العربي المعاصر لا يأتي على ذكره. ونقصد التصنيف الخاص بتيارات الفكر العربي (الليبرالية - اليسارية - السلفية).يتطلب طريق الحداثة الصحيح الانتظام النقدي في الثقافة العربية نفسها، بهدف تحريك التغيير فيها من الداخل، من أجل الوصول إلى حداثة في المنهج وحداثة في الرؤية. ويبدو أن انعدام مثل هذا الانتظام النقدي مع كون التراث يشكل بالنسبة لنا منطلقاً ومرتكزاً، فضلاً عن حاجته إلى معرفة علمية موضوعية، وأخيراً افتقاد الفكر العربي المعاصر المشتغل بمسائل التراث والحداثة إلى العقلانية، تمثل هذه جميعها دواعي وأسباب لاستئناف طرح مسألة التراث بصورة جيدة، والتعامل معه تعاملاً علمياً، يكون على مستويين لازمين: مستوى الفهم، ومستوى التوظيف أو الاستثمار.
إن الشرط الضروري للحداثة هو ممارسة العقلانية في قراءتنا لتراثنا، فهي السبيل لأجل صياغة حداثة خاصة بنا تمكّننا من الانخراط في سيرورة الحداثة العالمية كفاعلين وليس مجرد منفعلين، لأن الحداثة لا تطلب من أجل ذاتها، فنحن نطلبها كونها تمثل رسالة حضارية، ونزوعاً من أجل التحديث، تحديث الذهنية، وكذا المعايير العقلية والوجدانية.
وتعتمد هذه الخطوة على أساس إعادة كتابة تاريخنا الثقافي بروح نقدية ورؤية عقلانية تاريخانية، من أجل إنجاز وظيفتين ضروريتين:
١- امتلاك التراث والتحرر من ثقل حضوره من جهة
٢- اعداد التربة الصالحة لتأصيل المعاصرة بشكلها الصحيح وتغيير مسارها الفاعل في الذات الذي يقوم على التبعية والنقل والاستنساخ وتحويلها إلى المعاصرة المبدعة والمنتجة.
أن إشكالية الأصالة والمعاصرة في الفكر العربي الحديث والمعاصر، لم تكن، ولا هي الآن قضية الاختيار بين النموذج الغربي وبين النموذج الذي يمكن تشييده انطلاقاً من التراث العربي الإسلامي، بل هي بالأحرى قضية واقع فرضه الغرب علينا في إطار توسعه الاستعماري، وما ترتب عليه من حالة تعميم نموذجه الحضاري على العالم أجمع.