المشروع الأمريكي القديم - الجديد لتفتيت الأمة
قتيبة آل غصيبة
في تصريح لافت أثار موجة من التحليلات السياسية، إذ وصف المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا؛ توماس باراك؛ «وهو سياسي ورجل أعمال أميركي من أصل لبناني؛ ولد عام 1947؛ وعمل محاميا؛ ثم برز مستثمرا عقاريا في كبرى الشركات العالمية؛ شغل مناصب رفيعة في عهد الرئيسين الأميركيين رونالد ريغان ودونالد ترامب؛ وعُين سفيرا للولايات المتحدة لدى تركيا في مايو/أيار 2025؛ ثم مبعوثا إلى سوريا..»؛ منتقداً اتفاقية سايكس بيكو بأنها سبب رئيسي لعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط؛ مشيرًا إلى ضرورة «إعادة النظر في شكل الدول وحدودها بما يتوافق مع واقع الهويات المحلية»؛ ورغم أن التصريح جاء في سياق دبلوماسي ناعم؛ إلا أن أبعاده الفكرية والجيوسياسية لا يمكن فصلها عن سلسلة من المشاريع الغربية السابقة التي سعت إلى إعادة رسم خريطة المنطقة؛ أبرزها: مشروع برنارد لويس لتفكيك العالم العربي والإسلامي، وخريطة «حدود الدم» التي قدّمها العقيد الأمريكي رالف بيترز.
تحليل مضمون
يأتي هذا المقال لتحليل مضمون تصريح توماس باراك في ضوء تلك المشاريع؛ وبيان التشابهات البنيوية بينها؛ مع استشراف التداعيات المحتملة على مستقبل النظام الإقليمي العربي.
فقد صرّح توماس باراك؛ خلال ندوة بحثية في مركز «وودرو ويلسون» الأمريكي؛ بما يلي:
«اتفاقية سايكس بيكو لم تُصمّم لتراعي الواقع السكاني أو التاريخي لشعوب المنطقة؛ بل خضعت لمصالح استعمارية بحتة؛ آن الأوان لإعادة النظر في نموذج الدولة المركزية التقليدية.» وأضاف؛ «أن النموذج الفيدرالي أو الحكم الذاتي قد يشكّل حلاً قابلًا للتطبيق في مناطق النزاع؛ لا سيما سوريا والعراق»؛ أعقبها بتغريدة على موقع أكس؛ تحمل نفس المعنى؛ فهذا الخطاب يحمل ظاهريًا؛ دعوة إلى المرونة السياسية وتجاوز أنظمة الدولة الرخوة؛ لكنه في جوهره؛ يشرعن تفكيك الدولة الوطنية لصالح الهويات الجزئية.
إن هذه التصريحات تمثل استدعاء لمشروع؛» برنارد لويس المستشرق الامريكي البريطاني» ؛ أحد أبرز المفكرين الذين وضعوا تصورات مبكرة لتفكيك العالم الإسلامي؛ إذ طرح في عام 1981 لمستشار الامن القومي الامريكي زيغينو بريجنسكي؛ خريطة لتفتيت الدول الإسلامية إلى كيانات تقوم على أسس طائفية وإثنية، بهدف: تحييد التهديد الإسلامي الحضاري والسياسي، وتأمين التفوق الصهيوني والغربي، وإبقاء العالم العربي في حالة شلل وظيفي دائم، وإن كان برنارد لويس قد تحدث بلغة أكاديمية تحليلية؛ فإن أفكاره انتقلت تدريجيًا إلى دوائر صنع القرار الأمريكي؛ لا سيما خلال عهد جورج بوش الابن؛ حيث شُهد ما سُمّي لاحقًا بـ»الفوضى الخلاقة».
في عام 2006، نشر «الضابط الأمريكي رالف بيترز؛ في مجلة القوات المسلحة الامريكية؛ خريطة بعنوان (حدود الدم)»؛ اقترح فيها تقسيم الشرق الأوسط على أسس دينية وعرقية؛ معتبرًا أن الحدود الحالية لا تعكس الانقسامات الهوياتية الحقيقية، وتضمنت أبرز ملامح مشروعه: إنشاء دولة كردية مستقلة تضم أجزاء من العراق وسوريا وتركيا وإيران، تقسيم العراق إلى دويلات شيعية وسنية وكردية،
تحويل السعودية إلى ثلاثة كيانات، إنشاء كيانات طائفية مستقلة في سوريا ولبنان؛ ورغم أن المشروع لم يُنفذ رسميا؛ إلا أن العديد من الصراعات ما بعد 2011 وفوضى ما بعد «الربيع العربي» قدّمت بيئة خصبة لتحقق بعض ملامحه بحكم الواقع.
لقد رسمت نقاط التلاقي بين المشاريع الثلاثة (مشروع التفتيت لبرنارد لويس؛ وحدود الدم لرالف بيترز؛ والخطاب الدبلوماسي
لتوماس باراك)؛ الأساس الفلسفي لخريطة جيوسياسية؛ عبر رسم حدود جديدة؛ لتفتيت دول الشرق الاوسط كمرحلة اولى ؛ والأمة العربية والإسلامية كمرحلة لاحقة؛ إلى مكونات عرقية؛ تُجاوز الدولة المركزية لتلبية التعدد الهوياتي؛ لتكون النتيجة النهائية بلغة صريحة وصادمة، كيانات إثنية وطائفية متناحرة؛ ودويلات منهكة وضعيفة؛ وواقع مجزأ بغطاء شرعي وقانوني. ومن المؤكد فإن هذه المشاريع الخبيثة؛ التي اصبح يروج لها أيضا؛ العديد من الزعماء السياسيين في العراق وسوريا واتباعهم بأصوات رغم نشازها إلا انها اصبحت لها آذان صاغية من اصحاب النظرة القاصرة المصالح الضيقة ؛ ستكون تداعياتها خطيرة على مستقبل العراق وسوريا وباقي دول المنطقة والعالم العربي والاسلامي، وتؤدي الى: تفكك مفهوم السيادة الوطنية، وتتحول الدول العربية؛ خصوصا «الهشة منها»إلى كيانات حكم محلي تعاني من تدخلات خارجية متزايدة وغياب مشروع وطني جامع، وكذلك صعود الهويات الجزئية؛ وسيُمنح الانتماء العشائري أو الطائفي أو الإثني شرعية سياسية وقانونية؛ ما يُهدد بإدامة الصراعات الاجتماعية، وايضاً تمكين الفاعلين غير الدوليين كالميليشيات؛ والتنظيمات الطائفية؛ والإدارات المحلية؛ ليصبحوا أدوات شرعية للحكم بدلاً من الدولة المركزية، كما انها تساهم بدرجة كبيرة في تحقيق الهيمنة الصهيونية والغربية؛ ويستفيد الكيان الصهيوني من حالة التفكك لضمان التفوق العسكري والسياسي والاقتصادي؛ في ظل غياب أي جبهة عربية موحدة.
غلاف جديد
إن المشاريع التي تُطرح اليوم على الطاولة؛ سواء بصيغة «الحكم الذاتي»؛ أو «تجاوز سايكس بيكو»؛ أو «تصحيح أخطاء الماضي»؛ قد لا تكون أكثر من غلاف جديد لخطة قديمة تهدف إلى إعادة هندسة الشرق الأوسط بما يتوافق مع مصالح القوى الكبرى.
وإذا كان التاريخ قد رسم حدود المنطقة «بـالحبر الاستعماري» في سايكس بيكو؛ فإن التهديد القادم ربما يرسمها مجدداً بـ»الدم»؛ ما لم تبادر المجتمعات العربية إلى استعادة زمام المبادرة؛ سياسيًا وفكريًا، وإن طوق النجاة من مخاطر هذه المشاريع الخبيثة؛ يتمثل بالسير نحو وعي استراتيجي مضاد، فتصريح توماس باراك؛ رغم هدوئه؛ يحمل خطورة فكرية حقيقية تكمن في تسويغه للتفكيك السياسي تحت مسمى «الحكم الذاتي» أو «تمثيل الهويات المحلية»؛ أو الاقاليم؛ إذ يشكّل في جوهره؛ استدعاء مقنّع لمخططات لمخططات برنارد لويس؛ وامتدادا ناعما لمشروع رالف بيترز وحدود الدم، لاسيما وان امتنا تعاني من هشاشة الأنظمة الحاكمة؛ وتراجع المشروع الوطني؛ وانكشاف العالم العربي أمام التوازنات الدولية، فالتحدي الحقيقي اليوم؛ ليس فقط في الدفاع عن الحدود الجغرافية؛ بل في الدفاع عن حدود الوعي والاستقلال والمفهوم الحضاري للدولة،وهذا يتطلب؛ وعياً استراتيجياً جديد يعيد بناء الدولة الوطنية ضمن استراتيجية امن وطني تتوافق مع استراتيجيات الامن الوطني للدول العربية الاخرى ؛ تضمن حقوق الاقليات والاثنيات على أسس شرعية؛ تمثيلية؛ وعدالة اجتماعية؛ قبل أن يُرسم مصيرها من جديد... ولكن هذه المرة بحدودٍ من دم...