سطور من ضفاف الذاكرة المقهورة
مهداة الى أخي نزار الذي أستشهد و هو لم يبلغ الحلم
عدنان سمير دهيرب
وصلت تواً من رحلة طويلة , و كان لزاماً علىَ أن أتصل بالهاتف بين الفينة و الأخرى . لأطمئن على خبر يلجم الفؤاد من السؤال .إذ كانت المعارك على أشدها في الجبهة منذ بدء الحرب و لغاية الآن . و في كل مرة تحدثني سعاد بكلمات تشيع الأمل , غير أن كلماتها الأخيرة تنم عن شيئ خفي .. فقد تلعثم لسانها بشكل جلي .
قالت – أعتقد انه جريح .
قلت – قولي الصدق أرجوكِ , أستحلفك بكل المقدسات , أقبل يديك ، فقد كنت أرضى بأي إصابة في جسده , أريده أن يبقى كالمغفرة كنت أخاف أن يقع ما لا أريد التفكير فيه , و أن كان يعيش معي في لحظة أذكره فيها . حاولت مرات عديدة دون جدوى . و أخذ الألم يكتسحني , و اللهفة تحاصرني , أريد قليلاً من الهواء لكي لا أختنق .
فقد أصبحت لا أعرف مواصلة الحديث و دخلت في يم دون ضفاف من الأفكار المتضاربة , هواجس لم تأتِ على خاطري , و لكنها تداهمني أحياناً و أحاول أن أذبحها خشية من صدق المطرقة التي ستسقط ربما على كاهلي . أنه الهروب من حريق نشب في أعماقي , بقيت أدور في مكاني حتى ضاع قدمي , عينان شاكيتان تنظران بتوسل و وجه مجبول بالحزن .
رجعت ثانيةً الى المدينة التي سأسمع منها ما لا أريد تصديقه . رجعت تسحلني الهواجس و قلق يربض في داخلي , خوف من رحيل الساكن في خافقي . فقد أحترقت خلال الأيام و الاعوام الماضية بفقد الأحبة و الصحابا , و غدوت باكياً مذ تعلمت الضحك .
و ما أن أفرغ من عصف الخواطر و الخوف الذي يطوق أيامنا و الرعب الذي يتسلل الى الحياة , خضوع للسلطة التي تلاحقنا في البيوت , العمل و الكلام . تطوقنا القضبان التي نشعر بها و لا نراها , فالصراخ حتى في تفجر الحزن يقمع , الكل ينحني لكي يتعملق الطاغية و تناسل أدواته / لتراقب الكلام , السلوك , المشاعر و البكاء , في سنوات القسوة و الموت الرخيص للانسان , ترافقنا الشعارات الكاذبة و الخطابات السخيفة . و ترى الجميع يختار أجمل الكلمات في مديح الطاغية الذي يسوقهم الى طريقين أقبية التعذيب في مقرات أجهزة الرعب أو الموت السريع أو المؤجل في ساحات القتال , و ثمة طريق أخر الخضوع و الولاء و الهتاف بأسم الدكتاتور الذي أصبح تحت قيادته الكل يلاحق , يراقب , يقمع و يخضع بمشاركة الجميع . لا أحد يعرف بأي وسيلة يموت و كيف يعيش . ففي كل يوم تسقط ضحايا و تقام المقابر .
و ما أن أفرغ من عصف الخواطر .. لأسمع ضجيج المركبة التي تقلني أراها ومن فيها في كلام ليس أنا منه بصديق . و لكن كيف أطلب الصمت , و ما قيمته و سعير المجامر في القلب , و للحزن جلال دون الشكوى للآخرين . و ربما يستجيب البعض بعد القاء المواعظ , و ما أسخفها في تلك اللحظات لأني أحسبها حجة لإ زالت ماهو راسخ .
و ذهب الوقت يتثاقل .. و أصبحت وسط دائرة من المرايا المقعرة , كل منها يعكس وجهاً يرعب الوجه الآخر .. و أشتدت رغبتي في البكاء . و في لحظة خواء جاءت للخلاص من بعض مما أكابد . و لكي لا أشعر الأخرين فقد كان كقطرة ماء لتطفئ مدينة تحترق .و من العسير حقاً أن لا تعرف لماذا تبكي فلكل شيء مقدار ( ومن الصعب أن يبكي الرجال و لكن ذلك يحدث لكثرة القبح في الحياة ) .
و تمنيت أن أترجل و أركض عسى أن أسبق هذي المركبة التي تشبه قلبي ..
فيما مضى رحت أسأل عراف مدينتنا , ترددت كثيراً و لكن حاولت أن أقتنع بحكاية أمل ينطق بها الرجل الذي تستقر له النفس المضطربة .
- فقال يا بني لا أريد أن أوقد ناراً في صدرك لا تخبو , و أزرع فيك وسواس الهجر و العذاب . و حكاية السكن في قلبك , يا بني أؤمن بها , فهي مرفأ الأسفار , و اذا ما حاولت أن تقطع بعضاً منها فلابد أن يحدث السفر الأبدي من هذا العبث .
حين تذكرت كلمات العراف شعرت بتقهقر الى لحظة لم ترغب في وجودي بعد و كأن يدٍ خفية بثقل أرض الموتى لطمتني الى أقصى نقطة من القاع الساكنين فيها .
و هل أؤمن بالنبأ المنبعث من نبؤة الحب في قلبي على لسان العراف . فليس من اليسر أن تؤمن بما لا تعشق . و لكن من يضطرم قلبه يصدق كل قول يهبط عليه لضياع وجوده . و أخذت أستعرض نفحات الخيال لأعيش في ليالٍ ماضيات لا أملك منها سوى ما أستبدت به الذاكرة .
تعب أنا و هذا القلب مجبول بطباع الزمن سأوقد ناراً من حديد و أرميك فيه .. عسى أن تلفظ صيحة الزوال الأبدي .
كنت أتوسل لك السماء و ما نؤمن من المقدسات .. فأين توارت مخلصات الدعاء .
نذرت القرابين .. و كنت أنت القربان .
فما زالت كلماتك التي تلفظها بصعوبة لم تبرح مذ كنت تحبوا .
توسد الرصاص صدرك .. بعدما كان لحنين أمك . كنت لما تزل فتياً , لم تعرف الغزل و معاناة الجوى .. لم تشرب من كؤوس الحياة سوى كأس القدر .
و أفقت على صرفة لن أنساها ما حييت .. إذ غرقت في بحر من الأسى , فقد كان رحيلك خنجر في القلب يتمرغ . و مجامر ما برحت متقدة في ضفاف الذاكرة المقهورة .