تمتمات الفجر
سعد صبّار السامرائي
استيقظتُ قبل أن يرنّ المنبّه بلحظات. كانت الغرفة رماديّة، ساكنة. الليل لا يزال متشبّثًا بأطرافها، كطفلٍ خائف. البرد يتسلّل من أسفل الباب، ويصعد إلى العظام من دون استئذان. تمطّيتُ كما تفعل القطط في حضن الضوء. رفعتُ ذراعيّ المتيبّستين فوق رأسي. خرج من فمي صوتٌ متهدّج، ممتزجٌ بنفَسٍ من الحنين، ورجفةٍ قديمة، تشبه بقايا حلمٍ لم يكتمل.
قميص النوم، الذي ابتعته من السوق الشعبي، بالكاد يسترني. كتفي عارٍ، وثمّة فتحة ممزّقة عند الجانب، تفضح جزءًا من فخذي. غطاء السرير، الذي خضع لغسيل الحياة مرارًا، صار كجلدي: هشًّا، باهت اللون، لكنّه لا يزال يحتفظ بالدفء.
شعرتُ بثقلٍ في صدري، لكنه ثقلٌ من نوعٍ آخر. كان الحليب يتسرّب من تحت الثياب، يترقّب طفلي الذي أنهكه البكاء، ثم غلبه النعاس. لم يمضِ على سكونه سوى ساعتين. حتى الحلمُ، الذي حاولتُ الإمساك به، بدا وكأنه ينزلق مبتعدًا.
وقبل أن أُكمل تفكيري، تناهى إلى سمعي صوت خطواتٍ حافية تقترب من الباب. أطَلَّ زوجي برأسه، وعيناه تلمعان بالحب. همس كأنما يحدّث نفسه:
"يا لجمالك سومري، ونظرات عينك بابلية..."
شعرتُ بارتباكٍ خاطف. تخيّلتُ أنه يقصد ابتسامة الطفل الوادعة، لكنه كان ينظر إليّ: إلى عينيّ نصف المُغمضتين، وبقايا المسكارا العالقة على رموشي، إلى جسدي المرهق، وثدييَّ المكتظين بالحليب. لم أعد أرى في المرآة سوى ملامح الإنهاك، لكنه رأى شيئًا آخر.
ابتسم، كما لو أنه يرى فيّ ما لم أعد أراه. بادلتُه ابتسامةً واهنة، تحمل شيئًا من الخجل والودّ. نهضتُ وقبّلتُه قبلةً قصيرة، لم تسعفني الظروف أن أُطيلها.
حملتُ الطفل، الذي بدأ يتمتم بصوته الطريّ: "دادا... دادا..." ولوّح بيده الصغيرة. ردّ أبوه التحية، ثم أغلق الباب بهدوء. بقيتُ واقفةً لحظة أستجمع فيها يومي. كانت الساعة تشير إلى الخامسة وخمسين دقيقة.
صلّيتُ الفجر، وأيقظتُ يزن وسارة. وبدأت الفوضى المعتادة: ما الذي سيرتدونه؟ أين فردة الجوارب الأخرى؟ وماذا سيأكلون قبل أن يخرجوا؟
وحين هدأت الفوضى قليلًا، وارتدى كلٌّ منهم ما تيسّر، أفرغتُ ما في صدري من حليب، وضعته في الثلاجة، وسلّمتُ الرضيعَ لوالدتي التي تقيم معنا، ثم خرجنا. وصلنا إلى المدرسة عند السابعة والنصف. ودّعتُهما بقبلة سريعة على رأس كلٍّ منهما، ومضيتُ أركض إلى عملي كمن يطارد عقارب الساعة.
ينتهي الدوام، فأعود مسرعة. أعدّ الغداء، ونلتفّ حول المائدة بأحاديثٍ لا تكاد تكتمل. بعد ذلك، أغسل الصحون، أنظّف الغرف، وأرتّب ما تناثر من آثار النهار.
تتعاقب أصواتهم في البيت: ضحكٌ، وصخبٌ، ومشاجراتٌ صغيرة. تتوالى الأسئلة والواجبات، فأحاول أن أجيب، وأهدهد شكاياتهم المتفرّقة.
بعد أن ينام الأطفال، أجلس مع زوجي نصف جلسةٍ أخرى. نتبادل جملةً أو اثنتين، ثم أنسحب إلى فراشي.
في نومي أرى صحراء لا تُخفي شمسَها ولا تمنح ظلًّا. أمضي فيها وحدي، وأغرس فسائل نخلٍ برحي، واحدةً تلو الأخرى، كأنّي أحاول إيقاظ حياةٍ تحت رمالٍ صمّاء.
أستيقظ في منتصف الليل، أُرضع الصغير، وأغيّر ملابسه المتّسخة، ثم أستسلم للنعاس.
حلمٌ آخر. أركض في حقل قمحٍ شاسع. وفي منتصف ذلك الحلم، يرنّ المنبّه. أنهضُ مرةً أخرى، وأشعر بأنّ كلّ يومٍ يبدأ من حيث انتهى، كأنّ صباحاتي المتشابهة تمسك يد بعضها، ولا تترك لي مهربًا...
إلا إلى صوت خطواتٍ حافية تقول همسًا: "يا لجمالك سومري، ونظرات عينك بابلية..."