الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الهوية والمجتمع

بواسطة azzaman

الهوية والمجتمع

سمير ميراني

 

   تعدّ الهوية جوهر التاريخ الإنساني، وقيمهِ الأخلاقية العليا، وخلاصة تجاربه، يضع حاملها ضمن قانون شامل للطبيعة والتاريخ، ترتوي بالفكر المعرفي المتقدم والحداثية المعاصرة.

   أما المجتمع، سيرورة التاريخ، فتتكوّن فيه حياة الإنسانية، تزدهر وتنمو وتتطور تصاعديًا، حتى تفنى وتندثر، ليس هناك مجتمع عالمي واحد، بل متعدد ومختلف، لكلٍ ثقافاته المتنوعة الخاصة، منغلق على كيانه الجماعي، يمتاز بالعمق الفلسفي للفكر، ووحدة الوجود، وهذا قدره الثقافي والحضاري للبقاء حين يفقد روح أصالته، يخضع سلوك وتفكير المجتمعات للجوانب التاريخية والثقافية العلمية، وكيفية تفاعل هذه الممارسات الثقافية والمعرفية مع الواقع الاجتماعي، لتشكل الهوية المعاصرة.

    يتغير مفهوم الهوية بين الأصالة والحداثة، ويخضع لتأثيرات الواقع المعاصر، إذْ يحدُّ الأصالة من تطور الهوية ويقيّد تقدمها، لمواكبة العصر، بينما تتحكم الحداثة بالهوية، وتسيّرها، نتيجة ثقة العقل بما هو واقعي منطقي وعلمي.

   المجتمعات التي تواكب سير الوجود، وتتقبل تطور الحياة الإنسانية، لتتأقلم وعصر الحداثة، بداياته مميزة بالنشأة الاجتماعية الدينية، القبائلية التراثية، ثم ينتقل إلى مرحلة الإبداع الفكري والابتكار العلمي، ليصل إلى قمة نضجه العقلاني، في استغلال الأدوات العلمية والتقنية، للحفاظ على سيرورته الثقافية وقيمها الأخلاقية العليا.

    أما المجتمعات التي تقاوم التطور والتقدم، فتقف ضد كل من يحاول تغيير مسار بنيتها الداخلية التقليدية، والهيمنة على التراث، وتقوم بعرقلة الاندماج الثقافي والاجتماعي بين المجتمعات المتعددة المختلفة، حيث تمارس سلطتها العليا داخل الكيان المحلي، لفرض قيود وضوابط صارمة تحد من حقوق الأفراد، والحيلولة دون سيطرة الفرد على فكر المجتمع وثوابته، هنا يتحول العنصر والعقل الجمعي الثابت، عائقًا أمام تطور العنصر الفردي المتغير، نتيجته نشوء أزمة هوية، التي تعاني منها المجتمعات المحلية القبائلية الطائفية، المأزومة بأوهام الهوية المغلقة في ظل الحداثة، وما تجلبه هذه الأوهام من مخاطر، باعتبار أن الهوية في هذه المجتمعات خاضعة لسيطرتهم، ويتم توظيفها لصالح الجماعة والقبيلة.

    تعاني الهوية في المجتمعات المنغلقة من تحديات التي تواجه التفكير النقدي، والعلمي للمجتمع، والعوائق البنيوية للعقل الجمعي، الذي يعاني من الجمود الفكري، يسيطر عليه أفكار تقليدية، تكرّس اللامعقول في توجهاته، بعيدًا عن النهضة الثقافية المعاصرة، والفلسفة الحضارية الحديثة، عوامل غير مساعدة لتقدمه وتطوره، يصنّفه في خانة التخلف الفكري الذي هو آفة الهوية للمجتمعات، وخطورة إغراق الحياة الاجتماعية، بهويات متناثرة ضعيفة، تقوده إلى دوامة الأزمات وفوضى التأويلات الإقصائية.

   أزمة الحداثة المتأخرة، التي فقدت فيها الإنسانية تماسكها واستقرارها، غابت عنها المعايير الأخلاقية (فقدان المعاناة تجاه الآخر)، أظهرت نوعًا من اللامبالاة تجاه الهوية، ويتعامل المجتمع معها كأمور عادية بلا قيمة وأهمية، ليتحول إلى مجتمع معزول، مستهلك فوضوي، لا يملك الرغبة في التطور لمواكبة أقرانه الرقمية المعاصرة، مجتمع لامبالي، يختزل القيم الإنسانية في الشعارات التقليدية، ويتجاهل الآخر ومعاناته.

   المجتمع الذي لا هوية له، مجتمع منزوع القيمة، بلا مسؤوليات، ينفر من الواقع المعاصر، ليساهم العصبية في نزع الإنسانية عن الآخرين، والتحكم في السرد التاريخي بلا معيار أخلاقي ثابت، عبر تحويل المآسي إلى أحداث، تتكرر ضمن دائرة الذاكرة الاجتماعية، وتخدّر الحسّ الإنساني والانسجام المعرفي.

لابد من استعادة بوصلة المسار الأخلاقي (التميُّز بين الخير والشر)، واللجوء للفكر الواعي، لإنقاذ إنسانيتنا من غطرسة المجتمعات المتخلفة، والقدرة على قبول الآخر، بعيداً عن الشعارات المتوارثة المتواترة المتضاربة، بل عبر آلية علمية دقيقة، لإعادة تربية التراث المحلي بتراتبية علمية، وصقلها بالثقافات الواقعية الحديثة، وتنمية العقل على رؤية الآخر من مختلف المعاني الإنسانية، وتكريس النزعة الإنسانية العميقة لهوية المجتمع، الذي شخّص العصر بشكل خيالي ومأساوي، ثابت بلا حركة زمانية حقيقة.


مشاهدات 64
الكاتب سمير ميراني
أضيف 2025/10/18 - 12:42 AM
آخر تحديث 2025/10/18 - 4:38 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 163 الشهر 11693 الكلي 12151548
الوقت الآن
السبت 2025/10/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير