التعليم في العراق .. إنحدار نحو الهاوية
علاء العاني
لم يكن مستقبل الأمم يوماً نتاج ثرواتها الطبيعية ولا كثرة مواردها المالية، بل كان ولا يزال انعكاساً مباشراً لصلابة منظومتها التعليمية. فمن يملك تعليماً رصيناً يملك كل شيء ومن يفرّط فيه يخسر كل شيء. واليوم، يقف العراق عند مفترق خطير، بعدما تحوّل التعليم الذي كان مصدر فخره ،إلى ميدان صفقات ومصالح وجسور عبور نحو الربح المالي الرخيص.
قبل أيام، تناقلت منصات إعلامية إعلاناً صادماً لجامعة أهلية تعلن قبول ''خريجي الدراسة الإعدادية في جميع الأقسام الطبية بمعدل 55بالمئة فقط» ،(وهذا نص الإعلان )، ومرفق به موافقة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على تأسيس تلك الجامعة.
هنا لا يعود الأمر قراراً جامعياً ولا تفصيلا إدارياً، بل خطراً وطنيايمس حياة الناس ومستقبل البلاد.
من كلية الطب الملكية إلى جامعات المعدلات البائسة
منذ تأسيس كلية الطب الملكية العراقية عام 1927 بقيادة الطبيب الإنجليزي هاري سندرسون وبمعاونة رواد الطب العراقي سامي شوكت، هاشم الوتري، فائق شاكر، صائب شوكت وغيرهم ،كان الطب العراقي منارة علمية عالمية ومعياراً للتفوق.
لم تقل معدلات القبول فيها لعقود عن التسعينات، وتجاوزت أحياناً 100بالمئة في سنوات التنافس الحاد ، وبقيت كليات الطب العراقية لعقود طويلة من اعلى المؤسسات احتراماً وقيمة علمية ،حتى أصبحت شهاداتها من أقوى الشهادات المعترف بها دولياً. ولا عــــــــجب أن أكثر من خمسة آلاف طبيب عراقي أخصائي يعملون في بريطانيا وحدها اليوم، يحملون إرث المدرسة الطبية العراقية.
هذا التاريخ العريق لم يكن نتاج الصدفة، بل نتاج معايير صارمة،ومنافسة علمية وشعور وطني بأن مهنة الطب تعني حياة الناس لا تجارة الشهادات .
كيف يتحول المعدل المتدني إلى رخصة لبناء المستقبل وحياة الشعب؟
طالب يحصل على 55بالمئة أي إنه لم يتقن نصف المواد الأساسية سيمنح بعد سنوات قليلة صلاحية التعامل مع حياة البشر ، بينما زميله الذي حصل على 93بالمئة أو 97بالمئة ينافس بصعوبة على مقعد في كلية الطب الحكومية، وهكذا لبقية العلوم الأخرى ،هذه ليست سياسة تعليمية ولا عدالة قبول بل هدم منظم للطب والهندسة وجميع المهن العلمية الحيوية.
إن تخريج أطباء غير مؤهلين، ومهندسين غير أكفاء، وصيادلة لا يمتلكون أساسيات مهنتهم يعني بلغة الواقع ، قتلاً ببطء لا تُسجل عليه جريمة.
التعليم الأهلي عندما يتحول من داعم للدولة إلى خطر عليها
في الدول المتقدمة ،اليابان، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا ،لا يُسمح بفتح كليات الطب والصيدلة والهندسة في الجامعات الأهلية لأن هذه التخصصات تمس حياة المجتمع وتتطلب مستويات علمية صارمة،وتحتاج إلى بيئة علمية، مختبرات،تدريب ميداني، وشروط لايمكن التفاوض عليها .
أما في العراق، فقد تحول بعض التعليم الأهلي ،وليس كله ، إلى مشروع مالي فقط ،مقابل رسوم خيالية ، ومخرجات علمية لاعلاقة لها بالعلم ،في حين يجب أن يكون التعليم مشروع دولة لا مشروع أرباح.
• اليابان وألمانيا ..درسان للعراق
بعد الحرب العالمية الثانية لم تبدأ اليابان وألمانيا بإعادة بناء البنية التحتية ولا الصناعة، بل بدأت اولا ببناء منظومة التعليم ، فأصبح التعليم أكثر قدسية من المصانع وأكثر ربحاً من الاقتصاد نفسه .
واليوم تحصد هاتان الدولتان ثمار مازرعتاه:نهضة علمية وصناعية واقتصادية قل نظيرها .
هل يعقل ان دولاً انهزمت في الحرب تنهض بالعلم، بينما بلد الحضارات العراق ،ينحدر بالتعليم نحو المجهول؟
كيف نوقف الانحدار؟ مقترحات حلول لإنقاذ مستقبل التعليم في العراق
حتى لا يكون حديثنا مجرد صرخة تحذير، لا بد من أن يتحول إلى رؤية للمستقبل. ويمكن تلخيص بعض الحلول الواقعية في سبعة محاور واضحة:
تجميد الموافقات
1-مراجعة قوانين تأسيس الجامعات الأهلية وتجميد الموافقات الجديدة للتخصصات الطبية حتى التأكد من وجود بنية تحتية ومختبرات وإمكانيات حقيقية.
2-رفع معدلات القبول في التخصصات الطبية والهندسية بما ينسجم مع خطورتها العلمية،
العلم يجب أن يكون معيار القبول وليس المال.
3-إنشاء منظومة رقابة مستقلة على مستوى التعليم العالي
تراقب الجودة وتغلق أي كلية لا تستوفي المعايير من دون مجاملة.
4-اعتبار كليات الطب الحكومية مؤسسات سيادية ويبقى التدريب الطبي حصريًا تحت إشراف المستشفيات التعليمية الحكومية.
5-ضبط أعداد المقبولين وفق الحاجة الفعلية لكل قطاع ،
فالمشكلة ليست قلة الشهادات بل قلة الكفاءة.
6-تحسين التعليم من الجذور، بدءًا من المرحلة الثانوية ،فلا فائدة من كلية طب متطورة لخريج لا يمتلك أساسيات العلوم.
7-استعادة الاعتراف الدولي بالشهادات العراقية عبر توحيد المناهج وتطبيق معايير الاعتماد الأكاديمي العالمي .
•الهدف … صوت من أجل الشعب لا من أجل السياسة
هذه ليست قضية إعلامية ولا مزايدة خطابية ولا اختلاف سياسي.
إنها قضية وطن ومستقبل أجيال كاملة.
إذا انهار التعليم انهار كل شيء الطب، الهندسة، الأمن، الاقتصاد، الثقافة وكل مناحي المعرفة .
وما لم تُعاد للتعليم هيبته ويعاد للعلم مكانته، فإن العراق سيبقى يدور في حلقة من الخراب مهما امتلك من ثروات.
اليوم، لا نحتاج إلى صمت… بل إلى صرخة حق وعقل وضمير،صرخة تحمي الشعب من عبث الجهلة ومن تدمير أخطر مؤسسة في الحياة وهي التعليم، فالتاريخ لا يرحم الشعوب التي اهملت التعليم ،والعراق لايحتمل تجربة اخرى من الخراب .