الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
صراع  الذات والهوية في كتابات المرأة العربية والغربية .. في السياق التاريخي و الأدب المعاصر


صراع  الذات والهوية في كتابات المرأة العربية والغربية .. في السياق التاريخي و الأدب المعاصر

 سناء الحافي

 

لعلّ ما يحدّدُ مفهوم الذات و ماهيته باعتباره الصورة الذاتية التي تتكون داخل الفرد بناءً على خبراته وتجربته الحياتية، هو التداخل المُطبق مع الهوية التي تعكس بدورها انتماءات الفرد الثقافية والاجتماعية، وقوة الترابط السيكولوجي مع هذا الانتماء.

اذ تظهرهذه المفاهيم بشكلٍ جلي  في كتابات المرأة العربية، حيث تسعى الكاتبات إلى استكشاف ذواتهن في سياقات اجتماعية وتاريخية معقدة، وقد تلجأ بعضهن إلى تحليل الذات بناء على العُرف السائد و قانون القبيلة وتجريد ماهيتها بناء على ما تُمليه عليها الطبيعة من حولها.

وتكتسب فهم الذات والهوية أهمية خاصة في الكتابات العربية، حيث تعكس هذه المفاهيم التعقيدات التي تُواجهها المرأة بشكلٍ خاص، من خلال تحقيق الوعي الذاتي الذي  يُمكّنُ الكاتبات على فهم تجاربهن باستقلالية تامة، إضافة إلى إبراز التنوع الذي يعكس تجربة النساء العربيات في سياقات متنوعة.

الطاعة فضيلة والتمرد خطيئة

على سبيل المثال، تتناول الكاتبة نوال السعداوي في أعمالها كفاح النساء لاستعادة هويتهن في مجتمع يفرض قيوداً صارمة ، حيث سلّطت الضوء في إنتاجاتها الفكرية على التحديات التي تواجهها المرأة في مختلف السياقات الاجتماعية والثقافية، من خلال رواياتها ودراساتها الفكرية، التي كشفت عن أشكال القهر والتمييز المفروضة على النساء، بدءًا من القوالب التقليدية التي تحجم دورهن، وصولًا إلى العنف المُمارس ضدهن باسم العادات والتقاليد.

حيث قدَّمت السعداوي شخصياتها النسائية كنماذج للصراع من أجل الحرية، مجسّدةً بذلك تطلعات المرأة للكرامة والاستقلال الفكري والجسدي،اذ لم تكن كتاباتها مجرد صرخات احتجاج وتمرُّد خارج الطبيعة، بل حملت رؤية إصلاحية و فكر توعوي تدعو من خلاله إلى تفكيك البُنى الذكورية الظالمة وإعادة بناء مجتمع قائم على المساواة والعدالة الإنسانية، مشيرة إلى أنه " "كلما زاد وعي المرأة بحقوقها، واجهت قمعًا أشد من المجتمع والأسرة والدين، لأن الحرية تخيف من اعتادوا على السلطة."

وفي هذا السياق، نلاحظ أن الهوية النسوية للمرأة العربية تتأثّر بصفة عامة بعدّة عوامل تسهم في تشكيل فهمها لذاتها ، من خلال التعليم الذي  يفتح أمامها مجالاً أوسع لاستكشاف هويتها، والتراث الثقافي الذي يقوم بتشكيل الخلفية التي تنطلق منها المرأة في تجربتها الحياتية، علاوة على الظروف الاجتماعية التي تتغيروتؤثر على كيفية تعريف المرأة لذاتها، لأن أخطر سلاح يستخدمه المجتمع ضد المرأة هو ترسيخ فكرة أن الطاعة فضيلة والتمرد خطيئة.

 

الكاتبة غادة السمان و هوية الإنسان الحر

و يتّضح ذلك في الكتابات النسوية العربية من خلال التنوُّعِ في الرؤى حول الهوية والذاتية، وعلى سبيل المثال: نجد في كتابات غادة السمان، تصويراً للمرأة كمتمردة تبحث عن حريتها، وهويتها في عالم يفرض عليها الأدوار التقليدية، اذ نلتمس عبر شخصياتها الروائية، أن السمان تعكس صراعات النساء بين الاستقلال والانتماء، الحب والتحرر، الخضوع والتمرد، حيث تُظهر المرأة ككائن " حر" يسعى لكسر الحواجز والبحث عن ذاته بعيدًا عن الإسقاطات المفروضة عليه، كما أنها لا تقدم المرأة كضحية فقط، بل تصورها كقوة فاعلة، قادرة على اتخاذ قراراتها رغم الألم والخسارات، باعتبارها تنتمي إلى جيل يحاول أن يرسم للمرأة ملامح هوية جديدة، "هوية الإنسان الحر"، بعيدًا عن التصنيفات الضيقة والتقاليد التي تكبّل الروح.

بدورها، تلعبُ الثقافة دوراً رئيسياً في تشكيل تصور المرأة العربية عن ذاتها، وتؤثر بشكل مباشر على كيفية رؤيتها لنفسها، سواء من خلال العوامل الثقافية مثل العادات والتقاليد، أوالأعراف الاجتماعية المتوارثة .

لكن في الجانب المُشرق من الأدب النسوي، نجد أن بعض النساء يبتكرن طرقاً مُغايرة للتعبير عن تحدياتهن، كما فعلت الكاتبة ليلى العثمان في قصصها الغنية بالشخصيات القوية ، حيث تعكس صراع المرأة في مواجهة القيود الاجتماعية والتقاليد الصارمة، اذ يتّضح ذلك من خلال دراستنا لقصصها أن الشخصيات فيها  تسعى لكسر الحواجز المفروضة عليها، والبحث عن ذاتها، وتخوض معاركها الخاصة من أجل الحرية والاستقلالية، مما يجعل أعمالها مرآة تعكس تحولات المجتمع العربي وتأثيرها على النساء، فهي لا تصور المرأة ككائن مستسلم، بل تبرز قوتها الداخلية في مواجهة الظلم، ليصبح صوتها في الأدب صدى لطموحات نساء كثيرات في البحث عن حياة أكثر عدالة وإنسانية و حريّة .

الكاتبة مريم الأشقر والنضال الأدبي

كما يلعب التاريخ أيضاً دوراً حاسماً في تشكيل الهوية النسوية، فعلى سبيل المثال، تُظهر روايات الكاتبة مريم الأشقر كيف أثرت الأحداث التاريخية على تطور الهوية النسوية، فمن خلال شخصياتها الأدبية، تُبرز الأشقر كيف صاغت الحروب، والثورات، والتغيرات المجتمعية وعي المرأة بذاتها ومكانتها، مما منحها صوتًا ثابتًا في مختلف الصراعات. اذ نجد المرأة وهي تناضل من أجل حقوقها، تواجه الظلم، وتعيد تعريف هويتها وفقًا للمتغيرات المحيطة بها، مما يجعل أدبها شهادة على صمود المرأة العربية وسعيها المستمر لنيل مكانتها العادلة في المجتمع.

لكن ماذا يحدّث عند مقارنة مفهوم الذات والهوية بين الكتابات العربية والغربية؟

توني موريسون " ضمير أمريكا" ومفهوم الهوية المستقلّة

من خلال دراستنا لمفهوم الذات والهوية نجد تشابهات واختلافات ملحوظة بين الأدب النسائي العربي و الغربي، حيث غيّرت بعض الكاتبات الغربيات بشكل واضح مسار الأدب النسوي، وساهمن في فتح أبواب الحرية للنساء عبر الكتابة الجريئة والمواقف التقدمية التي تُعزّز مفهوم الهوية المستقلة ، وعلى سبيل المثال : الكاتبة الأمريكية – الإفريقية توني موريسون Toni Morrison ، الحاصلة على جائزة نوبل في الأدب عام 1993،، والملقّبة بـ"ضمير أمريكا، والتي تناولت في كتباتها قضايا المرأة السوداء، العبودية، والتمييز العرقي، وقدمت شخصيات نسائية تقاتل من أجل الحرية والكرامة، بين تمزقات الهوية وداء العنصرية، محاولة بذلك الكشف عن التشوهات العديدة والآثار النفسية والاجتماعية التي تلحق بالسود والزنوج أصحاب الأصول الإفريقية جراء التفرقة العنصرية الممارسة عليهم.

فرجينيا وولف وتيّار الوعي

بدورها، تعتبر أيقونة الأدب الحديث للقرن العشرين الكاتبة الإنجليزية فرجينيا وولف ، من أوائل من استخدم تيّار الوعي والمعروف أيضا باسم المونولوج الداخلي وهو طريقة لتصوير الأفكار والمشاعر المتدفقة التي تمر في العقل كطريقة للسرد، حيث دافعت وولف عن حق المرأة في الاستقلال الفكري والمادي، وطالبت بحرية التعبير بعيدًا عن القيود المجتمعية.

و يتّضح ذلك جلياًّ في في كتابها الشهير "غرفة تخص المرء وحده" (A Room of One’s Own – 1929)، حيث تطرح وولف فكرة أن المرأة بحاجة إلى استقلال مالي ومساحة خاصة بها لكي تتمكن من الإبداع والتعبير بحرية، مؤكدة من خلاله أن العقبات التي تُواجه النساء الكاتبات ليست فقط اجتماعية، بل اقتصادية أيضًا، مشيرةً إلى أن الحرية الحقيقية تبدأ من الاستقلال المادي، ومن أشهر أقوالها في هذا السياق:

"لا يمكن للمرأة أن تكتب أو تحقق ذاتها إلا إذا امتلكت مالًا وغرفة تخصها وحدها."

أما في رواية "السيدة دالواي" (Mrs. Dalloway) و"إلى المنارة" (To the Lighthouse)، رسمتْ وولف صورًا متجانسة وأحيانا متشابكة لنساء يعِشْنَ في صراع داخلي بين التوقعات الاجتماعية وأحلامهن الخاصة، متسائلة من خلال شخصيات الروايتين عن تحديد وصفي وإسقاط محكم لمعاني الذات، والحرية، والمعايير المفروضة عليهن، مما يعكس واقع النساء في المجتمعات الذكورية، مما مكّنها من تصوير التجربة الداخلية العميقة للنساء، بعيدًا عن القوالب النمطية التي وضعها الأدب الذكوري وتعزيزها بالسردية الزمكانية.

اذ لم تكتُب فرجينيا وولف فقط عن النساء، بل كتبتْ من أجلهن أيضاً، واضعة الأسس لتحرير صوتهن الأدبي والفكري.

حرية الاختيار و الانتماءات القبلية

إنَّ تقاطع التشابهات بين كلتا الثقافتين تهتم بتجارب الأفراد وتفاعلاتهم مع محيطهم الاجتماعي، مع وجود سعي مستمر لفهم الذات من خلال التجارب الشخصية والبحث عن الهوية.

لكن في الكتابات الغربية، قد يُصبح مفهوم الفردانية أساساً للفكر النسوي الحديث، بينما تركز الكتابات العربية على العلاقات الاجتماعية والانتماءات الثقافية والعقلية القبلية التي ما زالت تنخر في جسد النص الأدبي النسوي و تنهش في تفاصيله و تبحث عن عثرات لتضييق مساحات الإبداع على الكاتبات العربيات ، و يتّضح ذلك غالبًا فيما تُبرزه الكتابات الغربية في فرض " حرية الاختيار"، بينما تعكس الكتابات العربية قيودًا اجتماعية تؤثر على الذات.

لكن هذه الإسهامات المشتركة والتباين في التفكير بينهما في مفهوم الذات والهوية يؤكّد وحدة الهويّة  وسعي النساء إلى التعبير عن تجاربهن بحثًا عن الاعتراف والتقدير كرسالة موحّدة واضحة ومحددة.

الكاتبة سمر يزبك والرمزية الشعورية

وتعتبر رواية "أمرأة من تراب" للكاتبة اللبنانية سمر يزبك دراسة حالة رائعة، حيث تستكشف الكاتبة قيمتها الذاتية من خلال تجربة المرأة في مجتمع يفرض عليها قيودًا صارمة، حيث تسعى بطلة  الرواية إلى التحرر من العادات والتقاليد التي تحدّ من استقلالها، وسط صراعات داخلية وخارجية تعكس معاناة النساء في مواجهة قيود العائلة والمجتمع، وتسعى لإيجاد هويتها الخاصة  ضمن شخصيات معقدة  ومقاربة شعورية بعيدًا عن الصورة التقليدية المفروضة عليها بلغةٍ شعريةٍ قوية ومكثفة، تمتزج فيها العاطفة بالغضب، والتأمل بالتمرد، معتمدة بدورها على تقنية تيار الوعي، مما يسمح للقارئ بالدخول إلى أعماق البطلة ورؤية العالم من منظورها الخاص، مع توظيفها الرمزية والاستعارات لتصوير الواقع القاسي الذي تواجهه النساء في ظل السلطة الذكورية.

 

في السياق التاريخي للأدب النسوي : لماذا قيّد الأدب العربي القديم أدب المرأة؟

مع ظهور الحركة النسوية في أوائل القرن العشرين ، تطورت الكتابات النسوية وأخذت أشكالاً جديدة ومتنوعة، حيث بدأت تعكس تغيرات المجتمعات و استخدام أساليب سردية مبتكرة بلغويات عميقة، إضافة إلى الاهتمام بشكل متزايد بجوانب الهوية العربية للمرأة التي اقتصر دورها في الأدب العربي القديم في سياقات التغزّل بها أو كرمز للحياة البدوية  دون الاعتراف بكيانها المستقل أو إنجازاتها الفكرية والاجتماعية.

ففي الشعر الجاهلي، كانت المرأة مجرّد رمزٍ للحسن والجمال، لكنها لم تكن شخصية ذات إرادة أو فكر مستقل، اذ نجد أن الشاعر الكبير امرؤ القيس  حَصَرَ المرأة في إطار الحبيبة البعيدة أو المحبوبة التي يتغزّل بها، لكنها لم تكن طرفًا فاعلًا في الأحداث، معتمداً في مُعَلّقتِه بوصف حبيبته فقط من منظور جسدي وعاطفي، دون الاهتمام بأفكارها أو شخصيتها.

بعد ذلك برز الغزل العذري، في العصر الأموي، وأصبحت المرأة في كتابات الشعراء رمزًا للحب المثالي والعاطفة الصادقة، لكنها بقيت كائنًا ساكنًا لا دور له سوى إلهام الشاعر و طاقة إمداد لفحولته الذكورية ، وتشييئها والنظر إليها كموضوع للرغبة، كما نرى في شعر عمر بن أبي ربيعة.

أمّا في الحكايات والأمثال العربية القديمة، تم تقديم المرأة كزوجة مطيعة أو أم مكافحة، ولكن ليس كشخصية مستقلة، ولم يكن يُنظر إليها كصاحبة رأي في السياسة أو الفكر، بل كان دورها يقتصر على واجبات العطاء في المنزل ورعاية الأسرة.

حتى في الملاحم العربية مثل سيرة عنترة والزير سالم، لم تسلمْ المرأة من الانصياع والإخضاع وتقييد هويتها، ولم تُمنح دورًا قياديًا، حيث كانت إمّا "معشوقة" محاطة بالمحظورات الاجتماعية، أو أداة لتصعيد الصراع بين الرجال.

وبالرغم من وجود شاعرات وأديبات مثل الخنساء وليلى الأخيلية، وعلية بنت المهدي ورابعة العدوية،  إلاّ أنّ كتاباتهن كانت تُنظر إليها كاستثناء، وليست كجزء أصيل من المشهد الأدبي .

فالأدب العربي القديم لم يمنح المرأة فرصة متساوية وعادلة لنشر أعمالها كما كان الحال مع الرجال، لأن المجتمعات العربية القديمة  كانت مجتمعات ذكورية بامتياز ، تتحكم فيها القوانين القبلية والتقاليد المتوارثة، حيثُ كان الرجال يتمتعون بحرية أكبر في التّرحال والظهور في المحافل الأدبية، مثل الأسواق الثقافية كـسوق عكاظ، حيث كان يتم تداول الشعر ونشره شفهيًا على نطاق واسع، ولكن نظرًا لهيمنة الرجال على التدوين، لم يتم تسجيل إنتاج النساء الأدبي بشكل متكافئ، مما يؤكّد أن العديد من القصائد والمرويات التي كتبتها النساء ربّما ضاعت أو لم يتم الاهتمام بها بنفس الطريقة التي حظِيَ بها شعر الرجال.

ولم يقتصر تقييد المرأة في الأدب عند حدود التدوين و المشاركة، بل تمَّ حصر المرأة في أدوار محددة، وعلى سبيل المثال، عندما عُرفت شاعرات عربيات مثل الخنساء، كان حضورهن مرتبطًا بمواضيع معينة مثل الرثاء أو العاطفة، بينما سيطر الرجال على الشعر الحماسي والسياسي والهجائي، مما قلّل من فرص النساء في التعبير عن قضايا أخرى، بسبب رفض المجتمع آنذاك أن تتحدث المرأة عن السياسة أو الحرب أو الفلسفة في شعرها، وهو ما حدّ من مدى انتشار إنتاجها الأدبي.

ومع توسع الإسلام وتطور الفكر الفقهي، بدأت بعض الاجتهادات الدينية والمذهبية في فرض المزيد من القيود الصارمة على ظهور المرأة في المجال لأدبي دون منحها فرصة أن تكون مؤلفة وصانعة للأدب بنفس القدر الذي يتمتّع به الرجل.

أمّا في العصور الإسلامية المبكرة، برزت بعض النساء كمثقفات وشاعرات وصوفيات مثل علية بنت المهدي ورابعة العدوية ، لكن تأثيرهن بقي محصورًا مقارنة بنظرائهن الرجال .

 كانت علية بنت المهدي، شقيقة الخليفة هارون الرشيد، واحدة من أبرز الشاعرات في العصر العباسي، عُرفت بذكائها وبلاغتها، وكانت تتقن الشعر والغناء والموسيقى، حيث أصبحت إحدى الشخصيات البارزة في مجالس الأدب والغناء داخل البلاط العباسي.

لكن بالرغم من موهبتها، لم يكن يُنظر إليها كشاعرة منافسة للرجال، بل كفنانة تُزيّن مجالس الخلفاء، حيث لم يُدوّن شعرها وينتشر كما كان الحال مع الشعراء الرجال، بل بقي في إطار التسلية داخل القصور والمجالس.

ومن أبياتها الشهيرة التي تعكس استيائها من القيود المفروضة عليها كامرأة:

عذيريَ من عبدٍ يَراكَ مُسيطِرًا
عليَّ، ولكنْ لا يَراكَ تُطيعُ

أما رائدة التصوف والزهد رابعة العدوية كانت تُعدُّ من أشهر النساء الصوفيات في التاريخ الإسلامي، حيث قدمت رؤية روحانية زاهدة في الحب الإلهي، بعيدًا عن الأشكال التقليدية للعبادة، واشتهرت بأشعارها وأدبياتها التي تتحدث عن الحب الإلهي والتخلي عن الدنيا، حيث وجدت في الحب الإلهي مهربًا من القيود الاجتماعية التي فرضت على النساء، فابتعدت عن الزواج التقليدي والعلاقات البشرية، وكرّست حياتها لعبادة الله. ومن أشهر أبياتها:

أحبـك حبّيـن: حبّ الهوى
وحبًّا لأنـك أهلٌ لـذاك

وهنا، تعكس رفضها للخضوع لقيم المجتمع الذكوري الذي كان يرى الزواج قدرًا محتوماً للمرأة، فاختارت بدلاً من ذلك طريق الروحانية والتصوف الذي منحها حرية فكرية أكبر بعيدًا عن التقاليد.

وكانت تُعتبر رائدة في الفكر الصوفي، لكن على الرغم من تأثيرها الكبير في الفكر الصوفي، لم يُنظر إليها ككاتبة أو مفكرة فلسفية كما كان الحال مع الرجال الصوفيين مثل الحلاج وابن عربي.

فلم يكن من السهل تدوين أفكار النساء الصوفيات ونشرها في كتب مقارنة بالرجال، مما جعل الكثير من تراثها يُنقل شفهيًا أو يُنسب لاحقًا لرجال صوفيين.

استمر الأدب العربي في إعادة إنتاج الصور النمطية عن المرأة وهويتها وذاتها و إنتاجاتها الفكرية حتى العصور الحديثة، حيث بدأ الأدب النسوي في كسر هذه الأنماط والقيود والمطالبة بإعادة تعريف دور المرأة في الأدب والمجتمع.

هذه التغيرات التي رافقت تطور الزمن بفعلٍ تحرّري،جعلت الأدب النسوي العربي جزءًا لا يتجزأ من الأدب العربي، حيث أضحى منصة للنساء للتعبير عن أنفسهن وإحداث تأثير كبير في المجتمع.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، قصص "سيدات القمر" للكاتبة العمانية جوخة الحارثي التي تُجسد هذه الروح المتمرّدة، حيث وضعت إطاراً متمرّداً لشخصية النساء في هذه القصص لا تكتفي بالقبول بالأمر الواقع، بل تسعى لتحقيق أحلامهن ومواجهة التحديات، وتتحدى المألوف وتقف في وجه القيود مع التأكيد على قدرة المرأة على صنع خياراتها.

وعليه، لا يمكن إنكار أن النضال النسوي قد أسهم بشكل كبير في تشكيل الهوية العربية، ولم يقتصرهذا التأثير فقط على الأدب بل امتد إلى عواصم الثقافة والسياسة أيضًا، مما ساهم بشكل واضح في تعزيز الهوية للمرأة العربية في عصر يتطلب المساواة والعدالة.

الجسد والهوية

اذ نجد في الأدب النسوي العربي، أن الجسد يُعتبر موضوعًا مركزيًا، حيث تُعبر الكاتبات عن ارتباط الهوية النسائية بالجسد كمجال للنضال والتحرر من خلال كتاباتهن، إضافة إلى الحب والعلاقات الاجتماعية أيضًا التي تُعدُّ من الموضوعات المحورية فيه ايضاً ، حيث تلعب دورًا في تشكيل الهوية، كتعبيرٍعن تجارب الحب والخيانة والتضحية، مما يكشف عن ديناميكيات العلاقات والتحديات.

كما تتخذ بعض الكاتبات العربيات السياسة والنضال جزءًا لا يتجزأ من إنتاجاتهن، مستخدمات الأدب كوسيلة للتعبير عن رفض الظلم، وتكثيف عنصريْ الاحتجاج والمقاومة، ما يعكس قدرة الأدب النسوي العربي على تناول قضايا شائكة وتقديم صوت المرأة في مختلف جوانب حياتها.

تأثير السياق الثقافي على الهوية والحرية الأدبية للمرأة

يُعد السياق الثقافي عاملاً رئيسياً يؤثر بشكل عميق على تشكيل هوية المرأة وطريقة تعبيرها الأدبي، اذ تختلف الأساليب التي تُعبر بها النساء عن أنفسهن باختلاف الثقافات، فتجد أن بعض الثقافات تتيح مجالاً أوسع للحرية الأدبية، بينما تحصر أخريات النساء في قيود قد تؤثر سلباً على إبداعهن، لأن فهم تأثير السياق الثقافي على الهوية والحرية الأدبية للنساء ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل يساعد على تعزيز الوعي بحقوق المرأة، ويُشجع النساء على التعبير عن أفكارهن، ويعزز الحوار الثقافي البناء.

فالسياق الثقافي يلعب دورًا مفصليًا في تشكيل الهوية النسوية، حيث يساهم في تحديد القيم والمعتقدات التي تعكس رؤية المجتمع للمرأة.

أما السياق الاجتماعي، فيؤثر أيضًا بشكل كبير على تشكيل هوية المرأة، سواء من خلال الأسرة التي تعتبر البؤرة الأولى لتحديد دورها، أو من خلال التعليم الذي يعزز الوعي الذاتي ويساعدها على تشكيل هويتها المستقلة.

فالمرأة التي تكون محاطة بدعم عائلي لامحدود غالبًا ما تشعر بثقة أكبر في هويتها وتطلعاتها، في حين أن الضغوط الاجتماعية قد تؤدي إلى هجرة بعض النساء عن مجتمعاتهن بحثاً عن غرام الحرية.

الحرية الأدبية ودورها في تعزيز الهوية

وتُعتبر الحرية الأدبية أيضاً عنصرًا هامًا في تعزيز هوية المرأة، حيث تسمح لها بالتعبير عن أفكارها وتجاربها بصدق وعفوية كأداة قوية يمكنها من استكشاف الذات من خلال التعبير عن مشاعرها وتجاربها الشخصية ، وتحدّي القوالب النمطية التي تساعد بدورها على كسر الحدود المفروضة عليهن والتعرف على هويتهن الحقيقية.

 

بالتوازي مع ذلك، هناك قيود لا حصر لها تتربط بالسياق الثقافي تحد من حرية تعبير المرأة، مثل اتباع التقاليد والرقابة الحكومية أو المجتمعية.

هذه القيود تثبط الكثيرات عن مشاركة أصواتهن، مما يؤدي إلى فقدان تنوع الأفكار التي تعزز الأدب وتُثري الثقافة.

مقارنة بين الثقافة العربية والغربية

نظرة عامة على القيم الثقافية في العالم العربي

إنّ القيم الثقافية في العالم العربي تتمحور بشكل بديهي حول مفاهيم الأسرة التي تعتبر محور الحياة الاجتماعية، والتقاليد، والدين الذي يوجّه القيم والمعايير المجتمعية، مما يشكل الأسس لتصرفات الأفراد، والتي تعكس احترام الأجيال السابقة وتأكيد التضامن الاجتماعي، لكن قد تحجم هذه القيم بعض النساء عن التعبير عن آرائهن بحرية، حيث يمكن أن يُنظر إلى الآراء المغايرة على أنها تهديد للتراث الثقافي.

بالمقابل، تُعزز الثقافة الغربية حرية التعبير كحقٍّ أساسيٍّ، مما يسمح بنقل أصوات متنوعة، فيتَّضح الفرق بين الثقافات عند النظر إلى الحرية الأدبية التي تُعتبر في معظم الثقافات الغربية حقاً مكفولاً، بينما في العديد من المجتمعات العربية قد تواجه النساء قيودًا، مثل التقبل الاجتماعي لطرح الأفكار، حيث تشجع المجتمعات الغربية على الرأي المختلف وتعتبره جزءًا من الحوار الصحي.

وبالتالي، يُصبح الحوار النسوي في الأدب جسرًا حيويًا لنشر المعرفة وتعزيز الوعي بالقضايا النسوية، سواء من خلال تبادل الأفكار، أو تسليط الكاتبات الضوء على تجارب النساء ومساهماتهن سواء من خلال تحدي الصور النمطية وكسر القيود المفروضة على النساء، وتعزيز التعبير الذاتي الذي  يتيح للنساء مشاركة قصصهن وتجاربهن بطريقة مؤثرة هدفاً في خلق شبكة من الدعم بين النساء عبر الأجيال والثقافات.

الثورة النسوية في عالم مارتا الأدبي

"المرأة ليست كائناً ضعيفاً يحتاج إلى الحماية، بل إنسانة لها الحق في اتخاذ قراراتها بحرية واستقلال." (Martha Nussbaum) 

رؤية مارتا النسوية و عواصم نوال السعداوي

تُعد مارتا نوسباوم (Martha Nussbaum) واحدة من أهم الفلاسفة النسويات البارزات في العصر الحالي، والتي قامت بتطوير رؤية نسوية تستند إلى قدرة الإنسان وهي نظرية أخلاقية وسياسية تركز على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين من خلال تعزيز قدرات الأفراد وتوفير الفرص لهم لاستغلال إمكاناتهم، والتي تتبنى من خلالها مبدأ رفض النموذج الأبوي والمساواة بين القدرات بدلاً من قياس العدالة فقط من خلال الموارد المادية و دور التعليم وحرية المرأة والحقوق السياسية والفرص الاقتصادية المتاحة لها، كوسيلة لتحقيق العدالة للنساء، التي لا تستند فقط إلى القوانين، بل تتطلب خلق فرص متكافئة للنساء مما يسمح لهن بتحقيق إمكاناتهن بالكامل.

وجسّدت مارتا هذا التنوع البشري بصورة فلسفية من خلال شخصيات النساء في رواياتها ،حيث تتميز شخصياتها الروائية بتفاوت بين القوة والضعف والتحدي والحنان، اذ يمثلن واقعًا معقدًا، لترجمة القضايا الاجتماعية والنفسية، عبر الصراعات الداخلية التي تواجهنها في مجتمعاتهن، مما يُسهم في توسيع آفاق الفهم في مجال الاكتشاف الذاتي والوعي.   . 

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 77 الشهر 8257 الكلي 12148112
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير