باحث مصري يلقي بالقاهرة عام 1935 محاضرة عن العروبة في السودان تفكك إشكالية الهوية
الزمان
تمثل محاضرة الأستاذ محمد عبد الرحيم "عن العروبة في السودان"، والتي ألقيت في القاهرة، وثيقة فكرية بالغة الأهمية في سياق النقاش الدائر حول الهوية السودانية. لا يقدم الكتاب مجرد سرد تاريخي، بل يشكل محاولة تحليلية عميقة لتفكيك إشكالية الهوية وتشريح مكوناتها في الجسم الاجتماعي السوداني، متجاوزًا القراءات التبسيطية والاختزالية التي كانت سائدة.
الأطروحة المركزية
يدحض المؤلف التصور الشائع الذي يربط العروبة في السودان بالغزو الخارجي أو بسياسات التعريب في العصر الحديث. بدلاً من ذلك، يطرح أطروحة مفادها أن العروبة في السودان هي نتاج عملية تاريخية طويلة الأمد وطبيعية إلى حد كبير، قامت على التفاعل الحيوي والانصهار التدريجي بين العناصر العربية الوافدة (قبائل بني هلال وبني سليم وغيرها) والسكان الأصليين في السودان. تؤكد هذه الأطروحة على "السودنة" المبكرة للعنصر العربي، حيث تخلّى الوافدون عن كثير من عاداتهم وتماهوا في النسيج المحلي، مع احتفاظهم باللغة العربية كلغة تواصل وحاملة للثقافة.
المقاربة المنهجية
يعتمد منهج المؤلف على تفكيك الثنائيات الصلبة التي حكمت كثيرًا من النقاش حول الهوية، مثل "عربي" مقابل "أفريقي". ويوضح أن هذه المقولات لا تعكس التعقيد والتركيب الذي يميز الواقع السوداني. فالهوية السودانية، من وجهة نظره، هي هوية "مشكَّلة" (Hybrid) أو "تركيبية"، تجمع بين أصول إفريقية متنوعة وعناصر عربية وإسلامية، انصهرت جميعًا عبر قرون في بوتقة واحدة لتصنع الشخصية السودانية المتفردة. فالعروبة السودانية ليست نفيًا للأفريقانية، بل هي تعبير عن صيغة سودانية خاصة للعروبة، ممزوجة بعناصر محلية أصيلة.
المحاور التحليلية الرئيسية:
1. اللغة العربية كوعاء للثقافة الوطنية: يحلل الكتاب دور اللغة العربية كلغة مشتركة ووسيط حضاري. فهو لا ينظر إليها كلغة "دخيلة" بل كلغة تم "توطينها" وأصبحت أداة للتعبير عن الوجدان السوداني، كما يتجلى في الشعر والنثر والأمثال. يشير المؤلف إلى أن انتشار العربية كان عملية اجتماعية وثقافية أكثر منه سياسية، مما سهل عملية الاندماج الوطني.
2. الدين الإسلامي كحاضنة للهوية: يربط المؤلف بشكل وثيق بين انتشار الإسلام وترسخ العروبة الثقافية. فالإسلام، بشكله الصوفي المعتدل الذي انتشر في السودان، شكل الإطار الحاضن للقيم والمبادئ التي ساعدت على اندماج المجموعات المختلفة. أصبح الإسلام والعربية معًا نواة للثقافة السودانية السائدة، والتي انجذب إليها الآخرون طوعًا.
3. نقد الخطاب الانفصالي والاستعلائي: ينقد الكتاب من جهة، الخطاب الذي ينفي الصبغة العربية عن السودان ويصورها كغزو ثقافي، معتبرًا إياه جهلاً بالعملية التاريخية التراكمية والاختيارية. ومن جهة أخرى، ينتقد الخطاب الاستعلائي الذي يختزل العروبة في النقاء العرقي ويهمل المكونات الإفريقية الأخرى، مؤكدًا أن مثل هذا الخطاب يشوه الطبيعة التركيبية للهوية السودانية ويخدم أغراضًا سياسية طائفية أو عنصرية.
4. العروبة السياسية في القرن العشرين: يربط المؤلف بين تشكل الوعي القومي العربي وبين تبلور مفهوم العروبة في السودان كإطار سياسي. فقد مثلت العروبة، بالنسبة للكثير من السودانيين، إطارًا للتحرر من الاستعمار والانتماء إلى حضارة ودائرة ثقافية أوسع، دون أن يعني ذلك تنكرًا للخصوصية السودانية.
الخاتمة والتقييم
يخلص الكتاب إلى أن إشكالية الهوية في السودان لا يمكن حلها بالانحياز لأحد المكونات على حساب الآخر، بل بالاعتراف بالطبيعة المركبة والنسيج المتعدد للهوية السودانية. العروبة، في هذا السياق، هي حقيقة تاريخية وثقافية لا يمكن إنكارها، لكنها عروبة "سودانية" مميزة، تشربت بعناصر البيئة المحلية وأثرتها.
تُعد محاضرة محمد عبد الرحيم مساهمة أساسية في حقل دراسات الهوية السودانية. قوة هذا العمل تكمن في طرحه التاريخي المتين والتحليلي الذي يتجنب الإسقاطات الأيديولوجية المباشرة، مقدماً رؤية تتسم بالتوازن والعمق. إنه يدعو، ضمناً، إلى هوية سودانية جامعة تعترف بكل روافدها، وتستند إلى المشترك الثقافي الذي شكلته العربية والإسلام، مع احترام وتقدير التنوع الإثني والثقافي الذي يثري الوطن ولا يفتته. هذا النص يظل مرجعًا ضروريًا لفهم الجذور التاريخية لأزمة الهوية التي لا تزال تمثل أحد التحديات المركزية في السودان الحديث.