ما كان وما سيكون.. من فرساي إلى خور عبد الـله
قتيبة آل غصيبة
إن المقاربات المُقارِنة للأحداث التاريخية؛ تُعد من أهم أدوات الفهم والتحليل التي يعتمد عليها الباحثون والمفكرون لاستشراف الحاضر واستبصار المستقبل؛ فهي لا تكتفي بسرد الأحداث؛ بل تُمكن من تحليل الأنماط والمتشابهات والاختلافات بين تجارب الشعوب والدول عبر الزمن؛ واستخلاص العِبَر منها؛ ولتأكيد ذلك؛ فقد أستوقفني ما قاله وأكده العديد من المؤرخين ورجال السياسة المخضرمين بمختلف مللهم ونحلهم، وأبرزهم؛ ( إمام المفسرين «أبو جعفر محمد بن جرير الطَّبَرِي؛ ت: 923م؛ مؤلف كتاب؛ تاريخ الرسل والملوك والذي يعرف بتاريخ الطبري)؛ عن أهمية دراسة التاريخ وفهمه: إذ يقول «إن في قصص السابقين عبرة للمعتبرين وموعظة للمتأملين»، وقد اتفق مع نظرة الطبري للتاريخ؛ المؤرخ ومؤسس علم الاجتماع؛ (ابن خلدون؛ ت: 1406م؛ صاحب كتاب؛ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر؛ إذ جاءت مُقدمة هذا الكتاب التي تعرف بمقدمة ابن خلدون في جزءه الأول؛ واعتُبرت لاحقاً مؤلفاً منفصلاً أما الأجزاء الباقية فتحوي جلِّ ما أتى به ابن خلدون من عملياتِ التأريخ ودراسةِ المُجتمعات )؛ إذ يؤكد على ضرورة دراسة التاريخ وتحليل حوادثه ومجرياته؛ فدراسة التاريخ عنده :» في ظاهِرهِ لا يزيد عن أخبار الأيام والدول؛ وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها؛ وعلم دقيق وعميق
بكيفيات الوقائع وأسبابها» ، أما المفكر (الامريكي جورج سانتايانا؛ ت: 1952)؛ فإنه يؤكد على؛ « ان
من لا يتذكر الماضي محكوم عليه بتكراره»،
شخصيات سياسية
وفي عصرنا الحالي؛ المليء بالاحداث والمتغيرات المتسارعة؛ فقد أصبح دراسة التاريخ وتحليل أحداثه وإستنباط الدروس والعِبر منه؛ أمر ضروري لكل القادة والزعماء والشخصيات السياسية؛ وهو أمر يؤكده العديد من رجال الفكر السياسة؛ فهذا (ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا الاسبق؛ ت:1965)؛ يقول: «كلما نظرت إلى الوراء أكثر؛ كلما استطعت أن أرى إلى الأمام أبعد. «، في حين؛ (ان الكاتب والصحفي المخضرم الراحل محمد حسنين هيكل؛ ت:2016) ينصح العاملين بالسياسة او المهتمين بها على دراسة التاريخ وفهم أحداثه؛ ويؤكد بقوله: «إن الاهتمام بالسياسة فكرا أو عملا يقتضي قراءة التاريخ أولا؛ لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالا طول عمرهم.»، وجدير بالذكرفقد كان يُعرف عن ثعلب السياسية؛ (هنري كيسنجر وزير الخارجية الامريكي الاسبق؛ ت: 2023م)؛ بأنه قارئا نهما للتاريخ والفلسفة؛ وهو يعتمد على السياقات التاريخية في تفسير أحداث الحاضر وقضاياه الكبرى وقراءة المستقبل عبر القياس والعبرة؛ وهو يعتقد: «أن الحاضر لا يكرر الماضي تماما، ولكنه ينبغي أن يشبهه حتما؛ وبالتالي يجب أن يكون المستقبل كذلك. «
وبناءا على ذلك؛ فإنه من الضروري استعراض ماجاء في «معاهدة فرساي»؛ ونتائجها الكارثية والتي؛ كانت سبباً رئيسياً لإندلاع الحرب العالمية الثانية (1939- 1945)؛ ومقاربتها مع ما كان من إتفاقيات حدودية بين العراق والكويت؛ والتي ستكون سببا ومصدرا لمخاطر مستقبلية لكلا الدولتين ودول المنطقة؛ ما لم يتم معالجتها بشفافية وعدالة واضحة.
حينما أُبرمت معاهدة فرساي عام 1919؛ خرجت دول مهزومة من الحرب العالمية الأولى (1914-1918) لتجد نفسها أمام خريطة جديدة لا تعترف بتاريخها ولا بجغرافيتها؛ بل صيغت وفق مصالح الدول المنتصرة، فتم تفكيك الدول الكبرى ( العثمانية؛ والالمانية) ؛ وتوزيع أراضيها كغنائم، وإعادة رسم الحدود بمعزل عن إرادة الشعوب؛ بذريعة إحلال السلام؛ وشملت المعاهدة إعادة تشكيل جذرية لخريطة أوروبا والشرق الأوسط، بإنشاء دول جديدة كما في أوربا؛ إذ تشكلت دول (تشيكوسلوفاكيا؛ ويوغسلافيا؛ وبولندا) ، وتم إعادة تقسيم الأراضي ، وفي ألمانيا المهزومة؛ بإعادة اقليم «الألزاس واللورين إلى فرنسا؛ بعد ان خسرتها فرنسا في الحرب التي أعلنتها على بروسيا (ألمانيا) في عام 1871 «، ونتيجة لذلك؛ فقد أظهرت معاهدة فرساي عيوباً جوهرية؛ تضمنت، عدم استشارة المعاهدة الشعوب المتأثرة بقراراتها؛ واتخذت قرارات مصيرية دون موافقة شعبية أو تمثيل حقيقي للإرادة الجماعية، وتجاهل الواقع الجغرافي والثقافي، ورُسمت الحدود وفقاً للمصالح الاستراتيجية للقوى المنتصرة دون اعتبار لشعوب الدول المنهزمة، وإنشاء بؤر توتر مستقبلية؛ فقد أدت القرارات الحدودية إلى نشوء نزاعات طويلة الأمد؛ كما حدث في منطقتي «السوديت وممر دانتسيغ» ؛(السوديت، منطقة كانت في تشيكوسلوفاكيا ذات أغلبية ألمانية) ؛ أما (ممر دانزيغ؛ فهو ممر بري يربط ألمانيا ببولندا؛ ومدينة دانزيغ الحرة) ؛ التي كانت بعد معاهدة فرساي؛ تتمتع بحكم ذاتي تحت إشراف عصبة الأمم؛ حيث طالبت المانيا النازية بها؛ وكانت في حينها أحد أسباب اندلاع الحرب العالمية الثانية، كما ان معاهدة فرساي لم تستشر الشعوب المتأثرة بقراراتها.
وبعد أكثر من قرن؛ يعيد التاريخ نفسه بأسلوب مختلف؛ ولكن بالجوهر ذاته؛ من خلال قرارات مجلس الأمن الصادرة بحق العراق بعد عام 1991، وعلى وجه الخصوص؛ «القرار 833 لسنة 1993» ؛ الذي فرض ترسيماً جديداً للحدود البرية والبحرية بين العراق والكويت؛ من دون أي مفاوضات مباشرة؛ أو اتفاق مشترك؛ أو حتى فرصة للاعتراض العراقي الرسمي؛ فقد وجد العراق الخارج من حرب طاحنة ومحاصر دولياً نفسه أمام خارطة جديدة تُنتقص فيها أراضيه في؛ «الزبير؛ وأم قصر؛ والفاو»؛ وتُرسم حدوده مع الكويت بناءاً على خرائط أنجزتها لجان أممية؛ صيغت تحت وطأة ميزان قوى مختل؛ وفي غياب تام للندية أو العدالة، وقد زاد الامر سؤا وتوتراً ؛ بتوقيع اتفاقية خور عبدالله عام 2013؛ الذي يعتبر المنفذ البحري الرئيسي للعراق؛ والذي اعلنت المحكمة الاتحادية العليا العراقية في 4 أيلول 2024؛ قرارها بعدم دستورية قانون تصديق اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية فيه مع الكويت؛ وحقيقة فإن ما يجري في خور عبد الله ليس مجرّد خلاف حدودي تقني؛ بل هو تجسيد حيّ؛ لفكرة «الخنق الجيوسياسي» عبر أدوات ناعمة (الترسيم؛ والموانئ؛ العوامات)؛ وبذلك فإن العراق؛ والأمن البحري الإقليمي؛ سيدفعان ثمناً باهظاً.
وبناءاً على ذلك؛ فإن هناك ثمة تشابه صارخ بين ما جرى؛ «لألمانيا والدولة العثمانية في فرساي» ، وما جرى للعراق بعد غزو الكويت؛ ففي الحالتين؛ تم ممارسة سياسة «فرض الأمر الواقع»، لا بإسم القوة العسكرية فقط؛ بل باسم «الشرعية الدولية»، وفي كلا المشهدين؛ تم تجاوز مفاهيم السيادة والحقوق التاريخية؛ ليُرسم مستقبل الدول وفق مقاربات عقابية لا تستند إلى العدالة بقدر ما تستجيب لمصالح الدول الأقوى، فقد خَسِرَ العراق منافذ استراتيجية بحرية قلّصت من قدرة العراق على الوصول المفتوح إلى الخليج العربي؛ وكذلك ضرب العمق الجيوسياسي للبلاد عبر اقتطاع أراضٍ جنوبية استراتيجية؛ وترسيخ مبدأ الهيمنة الأممية على شؤون العراق السيادية في لحظة ضعفه؛ بتغليب منطق العقوبة لا الحوار.
إن هذه الحدود المفروضة خارجياً على العراق؛ أدت بلا ادنى شك الى مقاومة شعبية؛ وخلقت استياءاً شعبياً دائماً؛ ادى الى؛ تنامي العداء والكراهية بين البلدين، وبالتأكيد؛ فإن تجاهل مطالب الشعب العراقي المشروعه؛وعدم مراعاة حقوقه الجغرافية والاقتصادية؛ والتي جعلته يشعر بالغبن الكبير في حقوقه؛ وبأنه أصبح ضعيفا؛ ومسلوب ألارادة الوطنية في هذه الاتفاقيات؛ سيفاقم هذه الازمة ويؤدي إلى مشاكل مستقبلية.
مفاوضات ثنائية
ولمعالجة هذه الأزمة المتفاقمة ؛ فإن ذلك يتطلب التأكيد على مراجعة هذا الملف برمته (ترسيم الحدود؛ واتفاقية خور عبدالله ) ؛ دون تبني خطاب صِدامي أو عدائي؛ بل هو دعوة مشروعة لمقاربة قانونية متوازنة؛ تُعيد الاعتبار لمبدأ السيادة؛ وتحفظ الحقوق التاريخية؛
وتفتح الباب أمام مفاوضات ثنائية أو دولية جديدة؛ تحفظ بموجبها التوازن بين العراق وجيرانه، والعمل بروح من العدالة والإنصاف بطريقة يمكن ان تجنب كلا الدولتين الشقيقتين صراعا طويل الامد؛ بعيدا عن «معاهدات فرساي جديدة» تحمل بذور صراعات مستقبلية، فالمطلوب هو نهج أكثر ديمقراطية وشمولية في التعامل مع القضايا الحدودية؛ يضع مصالح الشعبين العراقي والكويتي الشقيقين في المقدمة ويسعى لحلول مستدامة تخدم السلام والاستقرار طويل المدى.
وإن الصمت الطويل عن هذا الملف؛ أو التسليم بقرارات صدرت في ظروف غير طبيعية؛ لن يخدم الاستقرار؛ بل يُؤسس لنزاعات مؤجلة وأزمات متراكمة، فكما كانت فرساي سبباً في الحرب العالمية الثانية؛ فإن السكوت عن قرارات غير عادلة بحق العراق سيفتح أبواباً لاضطراب مستقبلي خطير في المنطقة؛ فالمطلوب هنا ليس إشعال الخلافات؛ بل تصحيح الأخطاء؛ وعدم تجاوز القانون الدولي؛ بل استدعاؤه بصورة حقيقية وعادلة لإنصاف العراق؛ بعيدا عن إخضاعه أو تركيعه، إذ ليس من المقبول أن تتحول «الشرعية الدولية» إلى أداة تفرض حدوداً على الدول المستضعفة؛ فتنتقص من جغرافيتها؛ وتُقزّم حضورها؛ وتُفكك سيادتها.
فالتاريخ يعلمنا أن القرارات الحدودية المفروضة خارجياً؛ مهما كانت مبرراتها القانونية والسياسية؛ فهي تحمل في طياتها بذور عدم الاستقرار المستقبلي، فمعاهدة فرساي؛ رغم نجاحها في إنهاء الحرب العالمية الأولى؛ إلا أنها ساهمت؛ في خلق الظروف التي أدت إلى الحرب العالمية الثانية، وبالمثل؛ فإن القرارات المتعلقة بالحدود العراقية-الكويتية، رغم أهميتها لاستقرار المنطقة؛ فإنها تحتاج إلى مراجعة مستمرة وتطوير تدريجي يراعي المصالح المشروعة لكلا الشعبين الشـــــــــــــــقيقين العراقي والكويتي؛ وضــــــــــــــرورة تفعيل نموذج «الحدود المرنة: الذي يشمل؛ إعادة تصور الحدود ليس كمجرد خطوط جغرافية مغــــــــــــلقة وعازلة؛ بل كمناطق تفاعلية وديناميكية يمكن إدارتها بمرونة وفقاً لمصالح العراق والكويت؛ السياسية؛ والاقتصادية؛ والأمنية؛ والثقافية...
وأختم هنا بقول الله تعالى في سورة فُصّلَت : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)...