العرب والسياسة والذكاء الهارب
أحمد جاسم ألزبيدي
كانت أيامًا جميلة تلك التي قضيناها في مدينة كييف، زمن الاتحاد السوفييتي، قبل أن تتحول إلى ساحة صراع بين الشرق والغرب. كنّا طلبة من كل لونٍ ولسانٍ ودينٍ، من أقصى إفريقيا إلى آخر رصيفٍ في بغداد ، يجمعنا حلم العلم وتفرّقنا السياسة تلك السياسة التي لا يفقه فيها أحدٌ منّا إلا طريقة الجدال ورفع الصوت !
في الأقسام الداخلية كانت الحياة منضبطة مثل عقارب الساعة السوڤيتية: الأضواء تُطفأ في الحادية عشرة تمامًا، والأبواب تُغلق بإحكام، ومن يتأخر عليه أن يبيت في العراء أو يختبئ في غرفة صديقه "المجتهد". ومع ذلك، كانت النكتة السائدة بين الطلبة تقول:
"إذا رأيت ضوءًا في غرفة بعد الحادية عشرة، فاعلم أن الإفريقي يسهر مع فتاة، والفيتنامي يراجع دروسه، والعربي يناقش في السياسة "!
السياسة — هذه الكلمة التي جعلت العربي يعتقد أنه وُلد خبيرًا في شؤون الكون، وأن فشله الدراسي أو الحياتي سببه "مؤامرة صهيونية كونية" تبدأ من أستاذة يهودية وتنتهي بمدير الامتحانات في الكرملين !
كان الواحد منهم يرسب في الامتحان لأنه لم يفتح كتابًا، فإذا سألته عن السبب، ينتفض قائلاً بثقة الملوك:
""الأسئلة سهلة، لكن الأستاذة يهودية تكره العرب
وتمر السنوات يا سادة، وتتغير الجغرافيا وتبقى الذهنية كما هي. اليوم لا نزال نبحث عن "الأستاذة اليهودية" في كل مصيبة. إن انهارت الدولة — مؤامرة. وإن فشل المشروع — مؤامرة. وإن فازت الجارة بجائزة نوبل — مؤامرة أيضًا!
لقد تغيّر كل شيء إلا طريقة التفكير، فالعرب انتقلوا من جدالات المقاهي في كييف إلى معارك "الفيسبوك" و"الواتساب" و"إكس"، وما زال السؤال نفسه يتكرر:
من المسؤول عن خراب الأمة؟
هل هو الجهل؟ أم العناد؟ أم العادة القديمة التي تجعل العربي خبيرًا في كل شيء ما عدا ما يتقنه فعلاً؟
زمان كنا نقول: العربي يناقش في السياسة، واليوم نقول: العربي يغرّد في السياسة، والنتيجة واحدة — لا دراسة ولا دولة !
ربما لو أطفأنا ضوء السياسة قليلًا، وراجعنا دروس الحياة مثل الفيتنامي المجتهد، أو حتى أخذنا قسطًا من الراحة مثل الإفريقي العاشق، لنجحنا أخيرًا في الامتحان الكبير المسمّى “النهضة"!
لكن يبدو أن العربي سيبقى، حتى إشعارٍ آخر، يناقش في السياسة… حتى وهو نائم!