لحظة التحوّل في المعادلة الأمريكية - الروسية
محمد علي الحيدري
أدخلت القمة الأخيرة بين الرئيسين ترامب وزيلينسكي متغيرًا نوعيًا على مسار الحرب الأوكرانية، ليس لأنها حملت حلولًا فورية، بل لأنها أعادت ترتيب ميزان النفوذ ورسمت خطوطًا جديدة لحدود القرار بين واشنطن وكييف. فاللقاء، الذي جاء بعد اتصال ترامب–بوتين، جسّد انتقال إدارة الأزمة من منطق الحرب المفتوحة إلى محاولة هندسة توازن مصالح يمكن التفاوض عليه، مع بقاء عنصر الضغط العسكري في الخلفية كأداة ضبط لا كوسيلة حسم.
التحول هنا ليس تقنيًا بل بنيوي. واشنطن، بلسان ترامب، لم تعد تتحدث عن “هزيمة روسيا”، بل عن “وقف القتال وتثبيت خطوط التماس”، ما يعكس براغماتية جديدة تتجاوز خطاب الردع إلى منطق التسوية. هذه المقاربة تمنح الولايات المتحدة موقع الوسيط الحاسم، لكنها تضعها أيضًا أمام عبء النتائج، لأن أي تسوية لا يمكن أن تصمد ما لم تحظَ بضمانة أميركية قابلة للتحقق. وهنا تتجلّى فلسفة ترامب في إدارة القوة: ممارسة الضغط إلى حدّ يسمح بتحويله إلى مكسب تفاوضي لا إلى حرب استنزاف لا تنتهي. أما كييف، فقد وجدت نفسها أمام معادلة أكثر تعقيدًا. اللقاء أظهر أن استقلال القرار الأوكراني لم يعد مطلقًا، وأن هامش المناورة يتقلص كلما اقتربت لحظة التفاهم الأميركي–الروسي. الخيار أمام زيلينسكي ليس بين الحرب والسلام، بل بين شكلين من الواقعية: قبول تسوية مؤلمة بضمانات أمنية واقتصادية غربية، أو الاستمرار في حرب استنزاف قد تفقد فيها أوكرانيا القدرة على فرض شروطها. في الحالتين، تتحول أوكرانيا من فاعل مباشر إلى طرف ضمن منظومة تفاوضية أكبر ترسمها القوى العظمى.
في المقابل، يدرك بوتين أن الحرب وصلت حدودها القصوى، وأن الكلفة الاقتصادية والسياسية بدأت تتجاوز المردود الميداني. لذلك يبدو الكرملين مستعدًا لمقايضة واضحة: اعتراف عملي بنفوذه في الشرق الأوكراني وضمان عدم انضمام كييف إلى الناتو، مقابل وقف إطلاق نار مشروط وتخفيف تدريجي للعقوبات. هذه الصيغة لا تنطوي على اعتراف متبادل بحدود الانتصار، لكنها تكرّس منطق المقايضة كبديل عن منطق الإخضاع. الملف الأوروبي يضيف طبقة أخرى من التعقيد. فالقارة العجوز تخشى أن تُستبعد من هندسة التسوية، وأن تتحول إلى ممول لإعادة إعمار لم تُشارك في تصميم شروطه. أما الصين، فتتابع بصمت لقياس مكاسبها الجيوسياسية من أي انخفاض في التوتر الروسي–الأميركي. وسط هذه التفاعلات، تصبح قمة بودابست المرتقبة اختبارًا لإمكانية تحويل التفاهمات الثنائية إلى اتفاق ذي بنية دولية متماسكة، لا مجرد صفقة عابرة بين قوتين تبحثان عن مخرج مشرف.
غير أن جوهر المعادلة لا يزال هشًا. فنجاح أي تسوية يتوقف على قدرة القادة على تمريرها داخليًا: ترامب يحتاج لإقناع مؤسساته بأن التسوية ليست تنازلًا، وبوتين يحتاج لإقناع الداخل الروسي بأنها ليست هزيمة. من دون هذه الشرعية المزدوجة، ستظل أي اتفاقات مجرد هدنة معلقة على نيات قابلة للانقلاب.
في النهاية، ما يميز اللحظة الراهنة هو أن الأطراف جميعها تدرك استحالة النصر الكامل. لذلك تتجه نحو صيغة وسط تقوم على تجميد النار لا إطفائها، وعلى مقايضة النفوذ بالاستقرار المؤقت. السؤال الحقيقي ليس هل يمكن وقف الحرب، بل هل يمكن تحويل المقايضة إلى نظام توازن مستدام يمنع عودتها. فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا حين تفشل القوى الكبرى في استثمار الفرصة النادرة لتحويل التوازن العسكري إلى سلام استراتيجي، لا إلى هدنة تنتظر اشتعالًا جديدًا بأدوات أخطر وربما بنهايات لا تُحتمل.