هل كان المتنبي تقدميّاً؟
مسلم عوينة
« التقدمي « صفةٌ اتفق الناس على اسباغها على كل من يقرّ أفكارَ التقدمِ والتطور في مختلفِ الميادين ، ويسّلّمًُ بمكتشفاتِ العلمِ والحقائقِ العلمية، بعيداً عن الأوهام والخرافات. وقبل الإجابة على هذا التساؤل ، قد يقول البعض ، أيحقّ لك التحدث عمّن ملأ الدنيا وشغل الناس ، ومازال ، وأنتَ لستَ بشاعرٍ ولا أديب ؟ وأقول إنّ أبا الطيب ليس ملْكاً للشعراء والأدباء فحسْب.
بل انهُ ملك الجميع ، لذلك فسبيلي سالك للإدلاء بما يجول في خاطري بشأن جانب من تفكير ماليء الدنيا وشاغل الناس .. « أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد الجعفي القحطاني « .. وُلد أبو الطيب المتنبي سنة ٩١٥ م في حي كندة في الكوفة ، وتوفّي غيلةً سنة ٩٦٥ م ، فهو عاش جزءاً مهمّاً من القرن العاشر الذي تميّز مع القرن التاسع باٌحتدام المعارك السياسية والعسكرية ، وتميّزا أيضاً باٌنطلاق حركة علمية نشطة في مختلف العلوم ، كالفلك والرياضيات والكيمياء والطب وغيره … فمثلا تمكن عالم الفلك « أحمد بن عبد الله المروزي « من التوصل الى تقدير قطر القمر ب ( ٣٠٣٧ ) كم ويقترب هذا الرقم كثيرا من الرقم الصحيح الذي عُرف في عصرنا ، البالغ ( ٣٤٧٠ ) كم . وكذلك تمّ تقدير المسافة بين القمر والأرض ب ( ٢١٥٢٠٩ ) ميلاً ، ويقترب هذا التقدير من البعد الحقيقي الذي عرف في عصرنا، البالغ ( ٢٣٨٨٥٧ ) ميلاً .. كما توصّلوا في ذلك الوقت المبكر الى أنّ القمر والكواكب المعروفة آنذاك هي أجسام عائمة في الفضاء وترتبط فيما بينها بقدر من قوة التجاذب . وحصلت لهم القناعة بأنّ القمر ، المتباهي بنوره الجميل ، إنّما هو جسم معتم يكتسب نوره من الشمس ويعكسه على ما حوله ، فالنور الواصل منه الى الأرض هو انعكاس لضوء الشمس الواصل اليه … إقْتَنَعَ « أبو مُحَسّد « بما اكتشفه علماء الفلك وتبناه، ثم أثرى به شعره بإسلوبه البديع المبهر .
في قصيدته « تشبيه جودك « مادحا سيف الدولة الحمداني .. ولا أتذكر عدد مرات قراءتي لهذه القصيدة على امتداد زمن طويل ، غير أنني لم أنتبه للإدهاش الذي صاغه المتنبي فيها ، لكنني في قراءتي الأخيرة لها استفزني البيتان الأخيران منها استفزازاً لم يحصل لي فيما مضى ، فقد تنبهتُ الى أنّ الرجل اقتنع بما توصل اليه العلم بشأن حقيقة القمر وأورده في شعره بإسلوبه الإبداعي في القصيدة المذكورة ، ومطلعها :
ظُلْمٌ لذا اليوم وصفٌ قبل رؤيتهِ ..
لا يَصْدُقُ الوصفُ حتى يَصْدُقَ النظرُ
وتنتهي القصيدة بالبيتين الآتيين ، وقد أدخل الشاعر الإكتشاف العلمي بشأن حقيقة القمر ، في البيت الأخير :
تشبيهُ جودِكَ بالأمطار غاديةً
جودٌ لكفّكَ ثانٍ نالهُ المطرُ
تَكَسَّبُ الشمسُ منكَ النّور طالعةً
كما تَكَسَّبَ منها نورَهُ القمرُ
من هذا يتّضحُ أنّ الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كان متفتح الفكر يقتنع بالحقائق التي يتوصل اليها العلم ويوردها في شعره بإسلوبه المدهش فهو إذن تقدّميٌّ وفق مفاهيمنا المعاصرة!! وهكذا هو الراحل العظيم الجواهري، حين حسم موقفه بجانب مسيرة العلم بقوله في قصيدته العصماء (أزف الموعدُ) :
زحف النورُ فما يَلحقُ ظنُّ
بحِفافَيْهِ ولا يَعْلَقُ ذهنُ
وكأنّ الأرضَ شُقَّت واٌرتمى
صاعداً منها الى الأفلاك جِنُّ
غزتِ الشمسَ شُمَيسٌ مثلُها
واٌنبرى للقمرِ الوضّاح خِدْنُ
وإلى الآن وأوهامٌ تعِنُّ
وخرافاتٌ على العلم تمنُّ
ومعيبون على الشمس سناً
كذُباب الصيف في روضٍ يطِنُّ
تدركُ المنفوخَ كبراً هبّةٌ
فيذرّى فإذا المنفوشُ عِهنُ
وبذلك التقى الطودان على منصّة العلم .