إمام الإنسانية
نهلة الدراجي
«من نصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم».
في هذه الكلمات الخالدة، رسم الإمام علي عليه السلام ملامح القيادة الحقيقية، لا تلك التي تتغذى على الألقاب والمظاهر، بل التي تنبع من الصدق الداخلي، من التواضع، من سيرة ناصعة شفافة، ومن انسجام تام بين القول والفعل. وفي هذا اليوم المبارك، يوم عيد الغــــــــــــدير الأغر، حيث نحتـــــــــــــــفي بولاية أمير المؤمنين، نجد أنفسنا أمام فرصة سانحة لإعادة قراءة مفهوم القيادة والريادة في ضوء هذه القاعدة الذهبية التي أرساها الإمام علي بسيرته قبل كلماته.
عيد الغدير أكثر من مجرد مناسبة دينية هو إعلان انساني عظيم عن مبدأ القيادة القائمة على الحق، والولاية المبنية على الكفاءة الأخلاقية والقدوة العملية. فحين وقف رسول الله في غدير خم، وأمسك بيد علي بن أبي طالب, لم يكن يوصي فقط بخلافة سياسية، بل كان يكرّس مشروعًا إنسانيًا وأخلاقيًا تتجسد فيه القيادة الحقة.
الإمام علي عليه السلام، لم يكن مجرد خطيب أو حكيم، بل كان مدرسة حية تمشي على الأرض. جمع بين البلاغة والعمل، وبين الزهد والحكم، بين السيف والمحبرة، وبين العدالة والرحمة. وحين ينصح من يتصدى للقيادة أن يبدأ بنفسه أولًا، فهو يضع حجر الأساس لكل مشروع إصلاحي حقيقي: لا يمكن لمن لم يؤدب نفسه أن يطلب من الناس الاستقامة، ولا لمن لم يتعلم الانضباط الذاتي أن يزعم القدرة على قيادة الآخرين.
إن هذه القاعدة، في معانيها العميقة، تُعدّ مرآة نقيّة لكل من يتصدى اليوم للعمل العام أو يتصدر المنابر، سواء في السياسة أو في الدين أو في الإعلام أو في التربية. فالمسؤولية الأخلاقية، كما فهمها الإمام علي، لا تبدأ من المنصب، بل من الضمير، ولا تُقاس بعدد الأتباع، بل بمدى الصدق مع النفس، ومدى القدرة على تحويل القيم إلى أفعال يومية.
قائد حقيقي
في يومنا هذا للأسف كثُر المتحدثون وقلّ العاملون، حيث أصبح اللسان أداة تأثير أسرع من السيرة، يعيدنا هذا القول إلى جوهر الفكرة: أن القائد الحقيقي ليس من يتقن فن الإقناع فقط، بل من يعي أن عليه أن يكون هو نفسه المثال الحي الذي يحتذى به.
عيد الغدير، هو دعوة متجددة لكل من يضع نفسه في موقع التأثير أن يتذكر أن القدوة أقوى من الكلمة، وأن الصدق في السلوك أبلغ من أي خطاب.
فلنقف عند أنفسنا، نتأمّلها كما كان يتأمّلها الإمام علي عليه السلام، نُعيد تقويمها، نُهذّبها، فنكون بحقّ من السائرين على نهجه، لا بمجرد الاحتفال باسمه، بل بالاقتداء بفعله. ولنجعل من الغدير ليس فقط طقسًا للاحتفاء، بل محطةً للتطهّر، وتجديد العهد مع الإنسان في داخلنا.
لنكن أمناء على هذه المدرسة، لا بترديد الأقوال فقط، بل بجعلها نبراسًا في سلوكنا، في تعاملنا، في مسؤولياتنا، في صمتنا وكلامنا، فنحن جميعًا، في مواقعنا المختلفة، مطالبون بأن نكون قدوة، وأن نبدأ بأنفسنا قبل أن نطلب من غيرنا السير في درب الاستقامة
كل عامٍ وأنتم بخير، وكل غديرٍ وأنتم على نهج العدالة والإنسانية والوعي