الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
سماحة السيد

بواسطة azzaman

سماحة السيد

أحمد عبد المجيد

 

 

 (سلام عليكم .. سيدنا)، وينهض من مقعده رافعاً يده اليمنى الى مستوى عمامته السوداء، مجيباً بأفضل من تحيتي. ذلك هو مفتتح ولوج بوابة معهد العلمين للدراسات العليا، حيث يتولى سماحة السيد محمد علي بحر العلوم الامانة العامة، ويحمل على منكبيه، مسؤولية ادارة اكبر المؤسسات الاكاديمية العليا في العراق منذ تأسيسه قبل اكثر من عقد.

وأمس عندما اجتزت بوابة المعهد، كعادتي، تطلعت الى اليمين، محاولاً رؤية صاحب الاطلالة الصباحية، بوجهه النوراني وابتسامته الابوية الدالة على هيبة وتقوى مجتهد حوزي واستاذ جامعي، صاغ مآثر الدنيا كأنه يعيش ابداً وتهيأ للاخرة كأنه يموت غداً، حاولت التقاط قامة السيد ذي الجبة والعباءة فلم أفلح. كان الذي وراء الباب المواربة غائباً واختفى معه تفاؤلنا المعتاد.

   رحل سماحة السيد ابو جعفر كما يحلو لبعض التدريسيين والعاملين بأمرته، تسميته بكنيته، التي هي الاخرى ذات دلالة في مشهد النجف ومدارسها الدينية واعمدتها الفكرية وجامع الطوسي الذي يجاور الروضة الحيدرية.

رحلت روحه الى السماء السابعة، لتبقى بضيافة أرواح جده وذريته الطاهرة عليهم السلام، ومن دونه سنفتقد فرص المناقشات المثمرة في لقاءاتنا وحضوره المفعم بالاطمئنان والبلاغة.

   كان السيد شغوفاً بمخرجات فضاء قسم الاعلام بالمعهد، لا يترك ندوة الا وقد حضر للاستماع الى مداخلاتها ولا يفوّت حلقة نقاشية، الا وقد خصها بجميل ملاحظاته.

ودأب على حضور مناقشات رسائل الماجستير الممنوحة في القسم، معززاً الجدية التي تتسم بها والرصانة التي ترتقي اليها.

   وأتذكر انه حرص بمعية شقيقه عميد الاسرة، الدكتور ابراهيم بحر العلوم، على حضور مناقشة طالب اشرفت على رسالته، تتعلق بفاعلية الاعلام الأمني في مواجهة التطرف المؤدي الى الارهاب، وطيلة نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة، ظل متابعاً لم يبرح مكانه في قاعة المناقشة، مصغياً لتصويبات الاساتذة وسعيداً بها، وقد اثنى على جدية لجنة المناقشة برئاسة الدكتور ياس خضير البياتي، القادم لهذا الغرض من أربيل.

كان مجتمعاً في فرد ورجلاً في حشد وانساناً في مكونات ولهذا نفهم طبيعته المتسامحة، ولدى الانصات اليه، نزداد خبرة عبر اضافات كفاءة نادرة.

    لعله واحدا من قلة تملك هذه الموسوعية الشاملة، لكنها الصافية، في العلوم.

فخلاصته تكمن في عقل واحد، لكنها مدرسة متكاملة ومكتبة تزهو بآلاف المخطوطات والمصادر الحديثة. واتذكر يوم اقام القسم ندوة عن دور المضمون السينمائي في الترويج للمخدرات، وذلك في اطار توجيهات وزارة التعليم العالي، قدم (ابو جعفر) مداخلة، كانت بمثابة درس تربوي ينطوي على عمق نقدي.

   كما اتذكر يوم اقمنا حلقة نقاشية عن اتجاهات الدعاية الصهيونية بعد (طوفان الأقصى)، أمدنا سماحته برؤية متخصص أمضى سنوات طويلة يطالع ادبيات الاعلام والسياسة.

كان سماحته فقيهاً، تتجلى في تعاملاته اليومية، مع الطلبة والموظفين والتدريسيين، سمات التواضع المحبب، الذي يقرّب صاحبه الى القلوب ويدفع محبيه الى مزيد من الفهم المشترك والاقناع والتفاعل.

 كان موجهاً اخلاقياً يحفظ بعض التدريسيين له حسن التصرف مع طلبة، هم قوام مستقبل المشروع الوطني للبناء، والأمل المرتجى في استكمال شوط المضي بالعراق الى الامام. كان بالنسبة لهم ولنا، الاب والاخ والصديق والمعلم. كان يحل بيننا كفراشة، ويتنقل بين الاقسام كحمامة سلام. كان احياناً يتظاهر بالتغافل وليس التماهل، عملاً بقول الامام علي عليه السلام (أشرف خصال الكرم غفلتك عما تعلم).

 وأنا لا ازعم اني صديق له لكني كنت اسعى اليه، مجسداً القول (لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ اخاه من ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته).

فلم يصدر عنه قرار خطأ أو تصرف يدعو الى المراجعة أو المقاطعة، فجميع رؤاه تمضي الى مستقرها بالايحاء، من منطلق الهيبة التي تتمتع بها شخصية رجل دين كريم وثابت، يحل ضيفاً على الدنيا، ويرحل دون سابق انذار أو توقع.

 كان يترجم قول الامام ابي الحسن عليه السلام (فاذا رأيتم خيراً فأعينوا عليه واذا رأيتم شراً فأذهبوا عنه).

بدأنا في الاول من ايلول،  المباشرة الجامعية على وفق التقويم السنوي، وسط جو غير معتاد في المعهد، مناخ غياب علم وقامة ووقار واستقامة وانجاز، وبيئة تحتاج الى (ابو جعفر) وتترقب من يكون بديلاً بمستوى ارثه وتجربته، يستكمل الشوط الذي بدأه بوحي توجيهات وارشادات شقيقه الدكتور ابراهيم بحر العلوم.

 كانا ثنائياً باراً، نذر الأول روحه لمشروع فكري وطني عراقي طموح، نسأل الله ان يمد في عمر الثاني من أجل استكمال مقومات النجاح واعلاء شأن العلم في مدينة سيد البلغاء ويعسوب الدين.

 

 


مشاهدات 51
الكاتب أحمد عبد المجيد
أضيف 2025/09/01 - 4:04 PM
آخر تحديث 2025/09/02 - 12:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 51 الشهر 781 الكلي 11418654
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/9/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير