من الخنجر إلى العوالم الثلاثة
التعليم والذكاء الإصطناعي في قلب معركة التنمية
أسامة أبو شعير
منذ تأسيسها، لم تُقدَّم إسرائيل كدولة ناشئة تبحث عن البقاء فحسب، بل صيغت لتكون جزءًا من الغرب سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. هذا التموضع جعلها تحظى بدعم استراتيجي مباشر، وفتح لها أبواب الجامعات والمختبرات والأسواق العالمية. في المقابل، ظل العالم العربي يواجه معادلة أكثر تعقيدًا: تحديات خارجية مرتبطة بالصراع الإقليمي، وأخرى داخلية تتمثل في الفساد، البيروقراطية، والاقتصادات الريعية التي عطّلت إمكانات الإبداع وأضعفت منظومات التعليم.
ثلاثة كتب تساعد على فهم هذا المسار: خنجر إسرائيل لر. ك. كارانجيا في الخمسينيات، مكان تحت الشمس لبنيامين نتنياهو في التسعينيات، ومذكرات آفي شلايم العوالم الثلاثة في السنوات الأخيرة. قراءتها مجتمعة تكشف كيف انتقلت إسرائيل من مشروع بقاء إلى مشروع ريادة، وكيف تكبّد العرب ثمنًا باهظًا في التعليم والتنمية ورأس المال البشري.في خنجر إسرائيل نجد تصويرًا لعقيدة أمنية مبكرة: ضمان التفوق عبر إبقاء المنطقة في حالة صراع دائم. قد يراها البعض مبالغة أو رؤية تآمرية، لكن لا شك أن نصف قرن من الحروب الأهلية والنزاعات الداخلية استنزف موارد بلدان مثل العراق ولبنان والسودان. ومع ذلك، من التبسيط أن نُحمّل إسرائيل وحدها مسؤولية هذا التراجع؛ فالعوامل الداخلية مثل الفساد وضعف المؤسسات وغياب الحرية الأكاديمية لعبت دورًا حاسمًا في تعطيل التنمية. الخنجر ربما كان حاضرًا، لكنه لم يكن العامل الوحيد.
رسالة استراتيجية
ولعل أوضح الأمثلة على تطبيق هذه العقيدة كان قصف إسرائيل للمفاعل النووي العراقي “تموز” عام 1981. لم يكن هذا مجرد عملية عسكرية، بل رسالة استراتيجية تهدف إلى إجهاض أي محاولة عربية لتطوير قدرات علمية في مجالات استراتيجية. العراق الذي كان يسعى إلى بناء قاعدة علمية متقدمة فقد مفاعله، وتعرض عدد من علمائه العراقيين والعرب لاحقًا لعمليات اغتيال وتصفية، وهو ما شكّل ضربة قاسية لمشروع علمي–تعليمي كان يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للبحث والتطوير في المنطقة. هذه الحادثة تجسد بوضوح منطق “الخنجر”: منع أي منافس محتمل من امتلاك أدوات العلم والمعرفة.أما كتاب مكان تحت الشمس فقدّم في التسعينيات رؤية مغايرة: إسرائيل لا تريد أن تكتفي بالدفاع، بل أن تقود المنطقة عبر اقتصاد المعرفة. نسب الإنفاق على البحث العلمي تجاوزت 4 بالمئة من الناتج المحلي، من الأعلى عالميًا، بينما تراوحت في معظم الدول العربية بين 0.2 و1 بالمئة فقط. الجامعات ارتبطت بالصناعة والتكنولوجيا، وأنتجت شركات ناشئة جذبت استثمارات عالمية. لكن هذا النجاح لم يكن فقط ثمرة دعم الغرب، بل أيضًا نتيجة لعوامل داخلية: ثقافة ريادة الأعمال، بيئة استثمارية محفزة، وخدمة عسكرية أفرزت جيلًا مدربًا على التقنية. هذه المنظومة منحت إسرائيل قدرة على تحويل التعليم إلى أداة استراتيجية. أما في كثير من الدول العربية، فقد بقي التعليم أسير التلقين، يُخرّج باحثين عن وظيفة حكومية بدل أن يُطلق طاقات الابتكار.وتأتي شهادة آفي شلايم في العوالم الثلاثة لتكشف بعدًا إنسانيًا مركبًا. فقد كان اليهود العرب جزءًا أصيلًا من نسيج بلدانهم، خاصة في العراق والمغرب، لكنهم غادروا بأعداد كبيرة إلى إسرائيل. هنا يخسر العرب شريحة من رأس مالهم البشري، بينما تستفيد إسرائيل من استيعاب هذه الطاقات. ومع ذلك، فإن التجربة لم تكن بسيطة؛ فقد واجه اليهود الشرقيون تمييزًا واضحًا داخل إسرائيل على يد النخب الأشكنازية. الهجرة لم تكن دائمًا اختيارًا حرًا، بل مزيجًا من ضغوط داخلية وتحريض خارجي وظروف أمنية. لكن الرسالة المركزية تبقى قائمة: المنطقة خسرت جزءًا من تنوعها وكفاءاتها، كما تخسر اليوم أجيالًا من العقول العربية التي تهاجر للدراسة والعمل في الغرب ولا تعود. تشير تقارير البنك الدولي إلى أن ما يقارب نصف الطلاب العرب في الخارج يستقرون في بلدان المهجر بعد التخرج.
يدخل الذكاء الاصطناعي اليوم كفصل جديد في هذه القصة. فهو لم يعد مجرد تقنية، بل محدد لموقع الدول في الاقتصاد العالمي. إسرائيل استثمرت مبكرًا في هذا المجال وربطته بالأمن والصحة والزراعة والتعليم، بينما ما زالت معظم الأنظمة العربية تناقش قضايا شكلية مثل الامتحانات والمناهج. لكن من التعميم أن نقول إن جميع الدول العربية تقف في الموقع ذاته؛ فبينما ينهار التعليم في بلدان مثل اليمن وليبيا بسبب الحرب، تستثمر الإمارات في “جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي” وصندوق MGX الضخم، وتُدخل السعودية مناهج الذكاء الاصطناعي إلى أكثر من ستة ملايين طالب ضمن رؤية 2030، فيما يضع الأردن استراتيجية وطنية للذكاء الاصطناعي 2023–2027 لتأسيس بيئة تشريعية ومؤسسية للمرحلة المقبلة. هذه الجهود تبقى متفاوتة في طموحها وعمقها، لكن أهميتها تكمن في أنها تُظهر أن العالم العربي ليس كتلة واحدة، وأن الإرادة السياسية هي الفارق.
مكافحة الفساد
يبقى السؤال الأهم: كيف نصلح التعليم إذا كان أي مشروع علمي أو تكنولوجي مهدّدًا بالاستهداف الخارجي؟ الإجابة تبدأ من الداخل. لا يمكن منع إسرائيل أو غيرها من محاولة تعطيلنا، لكن يمكننا بناء منظومات أقل هشاشة وأكثر صلابة. الإصلاح يبدأ بالشفافية والحرية الأكاديمية ومكافحة الفساد، ثم بتوزيع البحث والتطوير عبر شبكة واسعة من الجامعات والمعاهد بدل حصره في مشاريع محدودة يسهل عزلها أو الضغط عليها. كما أن التعاون الإقليمي في البحث والتعليم يجعل من الصعب استهداف مشروع علمي واحد دون تداعيات سياسية أوسع. والأهم أن الذكاء الاصطناعي يمنحنا فرصة فريدة: يمكن قصف منشأة أو اغتيال عالم، لكن لا يمكن قصف فكرة أو إجهاض جيل كامل من المبرمجين والمفكرين إذا صغنا تعليماً يحرّر العقول بدل أن يقيّدها، ويقوم على التفكير النقدي والإبداع بدلاً من التلقين والامتثال الأعمى، ليصبح التعليم أداة تحرر فكري ومحرّكًا أساسيًا للتنمية. الكثرة هنا تتحول إلى حصانة: آلاف العقول المدربة على الإبداع لا يمكن تصفيتها أو محو أثرها.
ومن المهم أن نؤكد أن المقصود هنا ليس سباقًا نوويًا ولا امتلاك أسلحة دمار شامل، بل الإشارة إلى أن النهضة لا تقوم إلا على العلم كقوة إنسانية خلاقة. فالإبداع، والابتكار، والذكاء الاصطناعي، والبحث العلمي التطبيقي هي مشاريع التنمية الحقيقية، وهي التي يمكن أن تمنحنا استقلالًا ومعنى. إن الطريق ليس في القنابل ولا في المفاعلات، بل في قاعة الدرس، وفي دولة تمكينية تجعل من التعليم والبحث العلمي العمود الفقري لنهضة راسخة ومنتجة.
إن قراءة هذه الكتب الثلاثة معًا تكشف مسارًا واضحًا: الخنجر عطّل التنمية، الشمس أطلقت مشروع اقتصاد المعرفة، والعوالم الثلاثة كشفت خسارتنا لرأس المال البشري. واليوم يقف الذكاء الاصطناعي كمنعطف جديد: إما أن يكون أداة لمزيد من التبعية، أو فرصة لإعادة تعريف التعليم والتنمية.
النهضة لن تبدأ من ساحة المعركة، بل من قاعة الدرس. وإذا لم ندرك هذه الحقيقة سريعًا، وإذا لم ندمج الذكاء الاصطناعي في أنظمتنا التعليمية بجرأة ووعي، فسنظل نستهلك ما يُنتجه الآخرون، بينما يحتفظون وحدهم بمكانهم تحت الشمس.
خبير اقتصادي و مستشار دولي في التعليم والتنمية