الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإنسان أولاً.. نحو إستثمار حقيقي في رأس المال البشري

بواسطة azzaman

الإنسان أولاً.. نحو إستثمار حقيقي في رأس المال البشري

عصام البرّام

 

في عالم تتسارع فيه التحولات التقنية وتتغير فيه موازين القوى الاقتصادية والاجتماعية، لابدّ أن نعيد النظر في منظومة التنمية برُمتها، لنطرح السؤال الجوهري الذي لا ينبغي أن يغيب عن صنّاع القرار. ما هو موقع الإنسان في هذه التحولات والى أي مدى نضعه في قلب استراتيجيات التنمية؟ هل هو مجرد أداة في عجلة الاقتصاد أم هو الهدف والغاية من كل خطط التنمية؟

حين نقول الإنسان أولاً فاننا لا نطلق شعاراً رنانّاً أو عبارة عاطفية، بل نؤكد على حقيقة راسخة أثبتها التأريخ وتؤكدها التجارب الحديثة، أن الإستثمار في الإنسان هو الإستثمار الأذكى والأكثر عائداً وآستدامه، فكل تنمية لا تضع الإنسان في مركزها ولا تبني على قدرته ولا تؤهله ليكون فاعلاً في حاضره وصانعاً لمستقبله، هي تنمية هشة سرعان ما تنهار أمام أول إختبار حقيقي.

الرأسمال البشري لا يعني فقط عدد السكان أو القوة العاملة المتاحة، بل يتجاوز ذلك بكثير، أنه يعبّر عن القيمة المعرفية والمهارية والصحية والأخلاقية التي يمتلكها الفرد داخل المجتمع، هو مزيج معقد من المعرفة والخبرة والمهارات والتحفيز والثقافة والسلوك القيمي، الذي يجعله قادراً على الإبداع والتكيف والإبتكار والتعامل مع المتغيرات وتحويل التحديات الى فرص، وهو ما يميز الشعوب التي استطاعت أن تنتقل من التخلف الى الريادة خلال عقود قصيرة فقط، بفضل آستثمارها في الإنسان وتعاملها مع العقل البشري بآعتباره الثروة الحقيقة التي لا تنضب.

وحين ننظر في تجارب الدول التي حققت قفزات تنموية هائلة، نجد أن القاسم المشترك بينها، هو التركيز على التعليم والتدريب والرعاية الصحية والعدالة الاجتماعية وبناء منظومة متكاملة ترعى الإنسان منذ ولادته حتى شيخوخته، بل وتوفر له البيئة التي تمكنه من أن يعطي أقصى ما يمكن من إنتاج وآبتكار وإبداع ليس بدافع الخوف أو الحاجة، بل بدافع الإنتماء والرغبة في البناء والمساهمة في التغير. هنا فقط يصبح الاستثمار في الإنسان عملية تراكمية ومستدامة تثمر أجيالاً من القادة والمفكرين والمبتكرين ورواد الأعمال والمربّين والمعلمين والأطباء الذين يصنعون الفارق الحقيقي في مجتمعاتهم.إن التعليم في هذا السياق، هو المدخل الأهم للإستثمار في الإنسان، لا لأننا نريد أن نملأ العقول بالمعلومات، بل لأننا نسعى لبناء شخصيات متكاملة تفكر بشكل نقدي وتحلل وتربط الاشياء وتتخذ قرارات مسؤولة وتتعامل مع الاختلاف وتبحث عن الحقيقة وتسهم في المعرفة، وليس مجرد متلقين سلبيين لحشّو لا يصمد أمام أول إحتكاك بالواقع.

 ذلك إن المدرسة ليست فقط مكاناً لتلقين المناهج بل هي فضاء لتشكيل الوعي وتعزيز القيم وغرس روح المسؤولية والإنتماء والبحث والفضول والمثابرة والمبادرة، لذلك فإن إصلاح التعليم لا يعني تغيير المناهج أو تحسين البنية التحتية فقط، بل يعني تغيير الفلسفة التي تقوم عليها العملية التعليمية من الأساس، بحيث يصبح المتعلم مركزها الحقيقي والمعلم ميسّراً ومحفزاً ومرافقاً في رحلة آكتشاف الذات والعالم.

صحة نفسية

ولا يمكن الحديث عن رأس المال البشري دون التوقف عند الصحة النفسية والجسدية، فالعقل المبدع لا يمكن أن يعمل في جسد منهك ولا في بيئة تضغط عليه دون رحمة ولا توفر له أدنى مقومات الراحة والتوازن، فالإنسان المريض جسدياً أو نفسياً لن يكون قادراً على العمل أو التعلم أو الابداع، بل سيشكل عبئاً على مجتمعه؛ لذلك فإن الرعاية الصحية لا ينبغي ان تقتصر على العلاج بعد وقوع المرض، بل تشمل الوقاية والتغذية والمتابعة النفسية والدعم الاجتماعي وبيئة العمل الآمنة والمحفزة التي تضع رفاه الإنسان في قلب سياساتها لاعلى هامشها.والتمكين، فإذا شعر المواطن أنه مجرد رقم في سجلات الإدارة أو سلعة في سوق العمل أو تابع

أما على مستوى السياسات العامة، فإن وضع الإنسان أولاً يعني أن نعيد صياغة كل الخطط التنموية والبرامج الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لتكون متمحورة حول الإنسان لا حول الأرقام والنسب والمؤشرات الجافة التي قد تخدع أحياناً.

إن التنمية الحقيقة لا تقاس فقط بمعدلات الناتج المحلي أو حجم الاستثمارات أو نمو الصادرات بل بمدى شعور الإنسان بالكرامة والإنتماء والعدل والحرية والمشاركة والتمكين، فإذا شعر المواطن أنه مجرد رقم في سجلات الإدارة أو سلعة في سوق العمل أو تابع في منظومة لا تعبأ بصوته ولا تعترف بكرامته فلن يكون جزءاً من أي مشروع تنموي مهما كانت مغرياته.

ولأن الحديث عن الإنسان لا يكتمل دون الحديث عن العدالة الاجتماعية، فإن هذه الأخيرة تمثل شرطاً أساسياً لبناء رأس مال بشري متوازن وفعال، فلا يمكن لمجتمع يسوده الفقر والتهميش والتمييز والجهوية والنوعي أن ينتج طاقات خلاّقة ومبدعة، تُسهم في التنمية على العكس تماماً، فإن غياب العدالة يقود الى الإقصاء والكراهية واليأس وتفشي العنف والجريمة، ويحول الأفراد الى قنابل موقوتة بدلاً من أن يكونوا طاقات منتجة، لذلك فإن العدالة الاجتماعية ليست فقط مطلباً أخلاقياً، بل هي أيضاً ركيزة استراتيجية لبناء مجتمع قوي ومتماسك وقادر على مواجهة التحديات.

ومما لا شك فيه، فالشباب من كلا الجنسين الرجل والمرأة، يشكلان ركناً أساسياً من أركان رأس المال البشري. إذ لا يمكن تصور تنمية حقيقة في أي مجتمع دون تمكين الشباب من كلا الجنسين، وإزالة كل العوائق التي تحّول دون مساهمتهما الكاملة في الحياة الاقتصادية والسياسة والثقافية. إن تمكينهما لا يعني فقط منحهما حقوقهما القانونية، بل يعني أيضاً تغيير الذهنيات التي تهمّش دورهما وتحد من طموحاتهما وتضعهما في قوالب نمطية تحّول بينهما وبين تحقيق ذاتهما، كما يعني توفير الفرص العادلة في التعليم والعمل والقيادة دون تمييز أو تحامل؛ لأن المجتمع الذي يعطل نصف أو أكثر طاقاته بإرادته الحرة لا يمكن أن يبلغ أقصى إمكاناته.

ولا يمكن تجاهل، أن الإستثمار في الإنسان لا يقتصر على الجانب الاقتصادي فقط، بل يشمل أيضاً الإستثمار في القيم والثقافة والهُوية والروح الجماعية، لأن الإنسان بلا قيم يصبح مجرد أداة قابلة للإستعمال في أي آتجاه وبلا ثقافة يصبح هشاً أمام موجات التغريب والفراغ الوجودي، وبلا هوية يفقد إنتمائه ويذوب في عوالم لا تشبهه، إن بناء رأس المال البشري يتطلب أيضاً مشروعاً ثقافياً وإنسانياً يُعيد الإعتبار للثقافة والفن والفكر والمعرفة كوسائل لصناعة الإنسان الحر الواعي المسؤول، لا كمجرد ترف نخبوي أو نشاط هامشي.

وحين نقول إن الإنسان أولاً، فإن ذلك يعني أيضاً أن نصنع عقداً إجتماعياً جديداً بين الدولة والمجتمع يقوم على الثقة المتبادلة والحقوق والواجبات والشراكة الحقيقة لا على منطق الهيمنة أو الزبونية أو التبعية، فالدولة مسؤولة عن توفير البيئة التي تمكّن الأفراد من تحقيق ذواتهم وتنمية قدراتهم والمجتمع مسؤول عن حماية القيم والروابط والدفع نحو المزيد من الفعالية والمواطنة والمشاركة النشطة في الشأن العام.

وثائق رسمية

إن الحديث عن الإنسان لا يمكن أن يظّل مجرد خطاب إنشائي أو شعارات تزيّن الوثائق الرسمية، بل ينبغي أن يتحول الى برامج وسياسات وممارسات ملموسة تُقاس آثارها في واقع الناس وفي جودة حياتهم وفي شعورهم بالكرامة والإنتماء والفخر، ينبغي أن نتحرر من النظرة الضيقة التي ترى في الإنسان مجرد يدّ عاملة أو مستهلك أو ناخب، بل نراه كما هو كائناً حراً عاقلاً خلاقاً طموحاً يحمل في داخله بذور النهوض إذا ما أتيحت له الفرصة.

نحن اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن نستمر في منطق الاقتصاد والتكنولوجيا والبنية التحتية أولاً وكل شيء قبل الإنسان، وإما أن نعيد ترتيب أولوياتنا لنضع الإنسان في قلب كل شيء؛ بآعتباره الأصل والغاية والوسيلة. إن الدول التي فهمت هذا الدرس مبكراً، آستطاعت أن تتحول من دول فقيرة الموارد الى قوى إقليمية وعالمية، بينما بقيت دول أخرى تملك كل الإمكانات الطبيعية ولكنها لم تحقق تنمية حقيقة؛ لأنها لم تستثمر في الإنسان.

الرهان اليوم ليس فقط ما نملك من نفط أو معادن أو منشآت أو غير ذلك، بل على ما نملك من عقول وأحلام وطاقات.


مشاهدات 51
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/09/01 - 3:51 PM
آخر تحديث 2025/09/02 - 1:03 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 44 الشهر 774 الكلي 11418647
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/9/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير