فقاعات الزمن: المدينة التي تسبح في الخيال
حامد الضبياني
في عمق الأزقة المائية، حيث يسبح الأطفال مع الأسماك كما لو كانوا إخوة منذ الولادة، كانت المكتبة العائمة تتلألأ بألوان لا تعرفها أعين البشر في العالم اليابس. كل كتاب هناك، عند لمسه، يرسل نبضات على الجلد قبل أن يفتح، موسيقى صامتة تتسلل إلى الأذن الداخلية، وألوان تتراقص على شبكية العين دون أن يكون لها مصدر.رجل مسن، يرتدي ثوبًا من فقاعات خضراء، جلس على عتبة أحد الكتب الضخمة، يقرأ دون أن يتحرك الصفحات. لم يكن بحاجة إلى الكلمات، فقد كانت الأفكار تتسرب مباشرة إلى ذاكرته، فتراه يبتسم حزنًا وفرحًا في الوقت ذاته.فجأة، ظهر طفل صغير، لم يكن أكبر من خيال طفولي، يحمل كتابًا مغلقًا بإحكام. قال بصوت يشبه جلبة المياه المتدفقة:«هذا الكتاب لم يُكتب بعد… إنه ينتظر من يكتب قلبه فيه.»نظر المسن إلى الطفل، ثم إلى الكتاب، وعرف أن الوقت، هنا، ليس ملكًا للأيام، بل ملك للخيال وحده. فجلسا معًا، وبدأت كلمات لا تعرف الزمن تتشكل في الهواء، كأنها فقاعات تحمل أحلام كل من عاش في المدينة المائية.ومع كل فقاعات الكلمات، بدأ الحائط المائي ينهار تدريجيًا، ليكشف عن عالم آخر، عالم يسبح فيه الناس بلا جاذبية، يتحدثون بلغات لا تسمعها الأذن بل تشعر بها الروح. هناك، كل فكرة تصبح مكانًا، وكل شعور يتحول إلى لون، وكل حلم يصبح واقعًا يُعاش في اللحظة نفسها.
دخل رجل غريب المدينة، محاطًا بهالة من الضباب الأزرق. كان يحمل معه حقيبة قديمة مليئة بالذكريات التي لم يجرؤ على سردها في العالم اليابس. عند وصوله، شعرت المدينة به، واهتزت الفقاعات في الهواء وكأنها ترحب به.
اقترب منه المسن والطفل، وقال له الأخير:
«المدينة تنتظر من يعرف كيف يرى ما وراء ما يُرى.»حمل الرجل الحقيبة وفتحها، فاندفعت منها صور وأصوات وذكريات كل حياته السابقة، لكن لم تكن مجرد صور عادية، بل كانت فقاعات حية، تتراقص حوله وتغمره بمشاعر لم يعرفها من قبل. شعر بالحب والحزن والخوف والأمل كلها في نفس الوقت، وكأن قلبه أصبح مركز الكون.ومع مرور الوقت، اكتشف الرجل أن المدينة ليست مجرد مكان، بل كائن حي يتنفس ويتحدث عبر من يزورها. كل فكرة يطلقها أي زائر تصبح جزءًا من روح المدينة، وكل شعور يتحول إلى لون يضيء أو يظلم في الماء. هنا، لا توجد حدود بين الداخل والخارج، بين الحلم والواقع، بين الحياة والموت.في يوم من الأيام، ظهر كتاب ضخم على سطح الماء، غارقًا في ضوء أزرق خالص. اقترب منه الجميع، وكل من لمس الكتاب شعر بأن قلبه يكتب فيه بنفسه. لم يكن الكتاب يحتوي على كلمات، بل على نغمات وألوان وذكريات تتجمع لتصنع قصة العالم كله في لحظة واحدة.بدأ الأطفال، المسنون، والغرباء في المدينة بكتابة قصصهم في هذا الكتاب الغريب. كل فقاعات الكلمات ارتفعت إلى السطح، ثم تحولت إلى نجوم معلقة في الهواء المائي، تلمع في كل زاوية، وتشع لكل من يزورها ضوءًا من المعرفة والحب والخيال.وفي اللحظة الأخيرة، عندما امتلأت المدينة بالنجوم والفقاعات والألوان، أدرك الجميع أن هذا العالم لا يموت ولا يتغير، لكنه يتشكل باستمرار وفق مشاعر وأفكار من يزوره. أن كل من دخل المدينة أصبح جزءًا منها، وكل لحظة عاشها هناك كانت أبدية، لأنها لم تعد مجرد زمن، بل روح خالدة تتدفق بلا حدود.وهكذا، بقيت المدينة المائية حية، تحتضن كل من يبحث عن الحقيقة في الخيال، وتعلم أن الحياة، في جوهرها، ليست ما نراه بالعين، بل ما نشعر به بالقلب، وما نكتب في الفقاعات التي لا تنكسر أبدًا.