النيل يعانق دجلة .. وفي العناق تعود الأمة
خالد قنديل
بخطىً واثقة، يمضي العراق كمن ينهض من رماده، يفتش في خرائب السنوات عن ملامحه الضائعة، ها هو يتعافى، يلم جراحه بيدٍ، ويشيد باليد الأخرى ملامح دولة تتأهب لتسترد مجدها، كأن الأرض التي أرهقتها الحروب قد قررت أن تستريح قليلاً، وتمنح أبناءها فرصة لالتقاط أنفاسهم، ولحلم أكبر من الخراب، يسير العراق اليوم بحنكةٍ العارف بما خسره، وبرسوخٍ مَن خبر كل الحفر التي نُصبت له في الطريق، يتحرك في كل الاتجاهات، متأبطًا خطةً واسعة، كمن يمد جسوره نحو المستقبل على أكثر من جبهة، وها نحن نلمح ثمار هذا النهوض: مكافحة لفسادٍ نخر الجسد طويلًا، استعادة لاستقرار سياسي كان حلمًا بعيد المنال، تحسينًا لخدماتٍ طال انتظارها، وإصلاحات اجتماعية وحقوقية تُعيد للإنسان العراقي اعتباره وكرامته.
ولأن العراق لا يكتفي بأن يتعافى فقط، بل يريد أن يكون قوةً رائدة، فهو يواجه تحديات البيئة ويوقظ برامج الطاقة المتجددة، كمن يعلن ميلادًا جديدًا من رحم المعاناة، والأهم من كل ذلك: وأد تلك الفكرة الملعونة التي أرادت أن تقسمه، وأن تحيله جزرًا صغيرة من طوائف وأديان وقوميات متناحرة، تلك الفتنة التي لم تكن سوى نارٍ خبيثة زُرعت عمدًا في خاصرته، ليبقى ضعيفًا إلى الأبد، لكن العراق، الذي رأى الموت قريبًا، يعرف اليوم أن لا خلاص له إلا بوحدته، ولا قوة له إلا بأبنائه، ولا مستقبل له إلا إذا كتب تاريخه الجديد بيده، لا بيد الآخرين.
ركيزة اولى
في خضم السياسات الحكيمة التي يتبناها العراق اليوم، تتصدر الملفات الملحة واجهة المشهد، كجرحٍ قديم لا يلتئم إلا بالقرار الشجاع. ويأتي في مقدمة هذه الملفات حصر السلاح بيد الدولة، باعتباره الركيزة الأولى لبناء وطن قوي، مهاَب الجانب، يدرك رئيس الوزراء أن قوة الدولة لا تستقيم ما لم يكن السلاح في يدها وحدها، وأن سيادة العراق تبدأ من هذا المبدأ، ومن وعيٍ شعبي وحكومي متواصل بخطورة ما يحيط بالمنطقة من عواصف وتحديات، وليس هذا الملف بمعزل عن الحرب ضد الإرهاب، ذاك العدو الذي حاول مرارًا أن ينفذ عبر الشقوق إلى قلب الوطن، ليكسر جدار الأمل، ويشعل الفتنة في نسيج المجتمع، لكن العراق اليوم يرفض أن يُجر إلى الوراء، ويصر أن يلتحم أبناؤه لبناء المستقبل، وأن تلتئم الجراح لتغدو ندوبها شواهد على النهوض لا على الانكسار. وفي السياق ذاته، تتبدى الدبلوماسية العراقية في أبهى صورها، وقد شهدت في عهد حكومة محمد شياع السوداني تحسنًا ملحوظًا، فالعراق يمد جذوره في المحيطين الدولي والإقليمي، معتمدًا سياسة التوازن والاعتداد بالنفس، كمن ينهض واقفًا بعد كبوة طويلة ليقول: هذا وطني، وهذه كلمتي، وهذا تأثيري، هكذا يتجسد شعار «العراق أولًا»، لا كعبارة عابرة في خطابات رسمية، بل كسلوك ملموس، التزام أخلاقي ووطني وشرعي تجاه أبناء الوطن، ويكفي أن نتمعن في صورة العلاقات الخارجية اليوم، تلك التي أضافت للعراق مكانة جديدة، ليغدو طرفًا مؤثرًا لا متأثرًا فحسب، ولعل أوضح الدلائل على هذا التحول ما يشهده العراق من ثقة متنامية تُترجم في استثمارات أجنبية وعربية تجاوزت 100 مليار دولار في قطاعات متعددة، إنها الأرقام التي لا تبوح فقط بالمال، بل بالثقة في عراق تغيرت ملامحه الجريحة، ليعود كما عهدناه: صلبًا، قويًا، وفاعلًا في محيطه.
ولأن العلاقات الخارجية ليست صفحة منفصلة عن كتاب السياسة، بل هي امتداد لسطوره ونتيجة فصوله، فإن ما يجري في الإقليم والعالم من تحولات وصراعات يفرض على العراق أن يقرأ المشهد بعينين مفتوحتين على الحاضر والمستقبل، في هذا السياق، جاء تصريح رئيس الوزراء العراقي أمس الأول حول إعادة ترتيب العلاقة مع التحالف الدولي، كمن يرسم خطًا فاصلاً بين ماضٍ أثقل كاهل الوطن، ومستقبل يريد له أن يكون أكثر سيادة واستقلالًا، لقد أدركت بغداد أن إدارة الملفات الكبرى لا تكون بردود أفعال، بل بمنهجية رصينة، وبحنكة تستند إلى خطط قوامها الزمن الدقيق، وآليات التنفيذ، وقراءة دقيقة للظرف المحيط، ومن هنا تتبدى ملامح عراق جديد، يوازن بين ضرورات الأمن القومي وتطلعات الشعب، بين إرادة الحكومة وحلم الأمة.منذ عام تقريبًا، وقعت بغداد اتفاقًا مع واشنطن، يقضي بانسحاب قوات التحالف الدولي من الأراضي العراقية، ليس انسحابًا متعجلًا قد يفتح الباب للفوضى، ولا بقاءً مفتوحًا ينال من السيادة، بل خطة مدروسة تُنفذ على مراحل، في عامين كاملين، وها نحن نقترب من أولى ثمارها: خروج عدد كبير من القوات بحلول سبتمبر الجاري، على أن يكتمل الانسحاب بنهاية العام المقبل 2026. إنها ليست مجرد جداول زمنية على ورق، بل هي معركة استعادة قرار، معركة انتزاع السيادة من بين أنياب التدخلات. كأن العراق يعلن بصوت مسموع: «كفى»، ثم يمضي واثقًا نحو غدٍ يتسع له وحده، لا يُملى عليه من الخارج، بل يُخط بيديه على أرضه، وتحت سمائه.
وأنا المصري، ابن النيل، كنت شاهدًا على لحظة لن أنساها ما حييت، لحظة التقى فيها دجلة بالنيل في ساحة مصرية، حين جاء المقاتل العراقي ليتمرن على يد شقيقه المصري في مدرسة المظلات، أربعة أشهر من العرق والصبر، ثلاثة للمظلات وشهر للصاعقة، كفيلة بأن تخلف رجالًا آخرين، وقلوبًا جديدة تنبض بالعزيمة، تسعون في المئة اجتازوا الاختبارات، لكن الرقم لا يحكي شيئًا. ما يحكي هو تلك العيون العراقية التي لمعت تحت شمس القاهرة، وهي تبوح بلا كلمات: «جئنا لننهض، ولن نُخذل بعد اليوم.» لم يكن المشهد تدريبًا عسكريًا فقط. كان وعدًا. كان رسالة حب مكتوبة بالدمع والعرق بين جنود عربيين التقوا على أرض واحدة، بالنسبة لي لم يكن العراق ضيفًا في مصر، بل كان مصر نفسها في مرآة أخرى. شعرت أن ما يجمعنا أعمق من السياسة، وأبقى من المصالح.
نبض الحياة
العراق بالنسبة لنا، نحن المصريين، ليس بلدًا بعيدًا، بل هو البلد الثاني، الأخ الذي كلما جُرح نزفنا معه، وكلما نهض نهضنا بجانبه، لهذا بدا المشهد أمامي أكبر من تدريب، وأوسع من اتفاق، كان لحظة عودة الروح إلى الجسد العربي، ووعدًا بأن هذه الأمة ما زال في قلبها ما يكفي من نبض للحياة والنهضة، ولعل الفريق الركن أحمد داود الخفاجي كان أكثر من مجرد قائد عسكري، كان جسرًا من الروح بين ضفتي النيل ودجلة. رجلٌ يمشي في ثوبه العسكري، لكن داخله قلب شاعر يعرف أن الجيوش لا تُبنى بالحديد وحده، بل بالحب والإيمان، بالذاكرة التي تذكرنا أن العروبة ليست خطابًا سياسيًا، بل نسب دمٍ لا ينقطع.
لقد رأيته يتحدث عن مصر كما يتحدث عن عراقه، بعاطفة صافية كأنه يعرف أن بين النيل ودجلة سرا قديمًا لا يعرف الخيانة. كان يقولها دون أن ينطق: حين يقوى العراق تقوى مصر، وحين تنهض مصر ينهض العراق.
بدا وكأنه يحمل في عينيه وصية الأجداد: أن هذه الأرض لن تبقى مفرقة، وأن القوة التي نبحث عنها جميعًا لا تولد إلا من وحدتنا. ولستُ أكتب عنه الآن للمرة الأولى، فقد كتبت عنه من قبل، يوم لمست فيه روح العروبة التي تجري في عروقه، ويوم رأيت كيف يتسع قلبه ليحمل وطنين لا وطنًا واحدًا، وكيف يؤمن أن الدم العربي لا يُجزأ، وأن المصير لا يعرف غير طريق الوحدة. إن ما صنعه الخفاجي في تلك اللحظة لم يكن اتفاقًا عسكريًا باردًا، بل كان مصالحة مع الحلم العربي، أعاد التذكير بأننا شعب واحد وإن تناءت بنا المسافات، كانت مصر بالنسبة له بيتًا ثانيًا، والعراق بالنسبة لنا جميعًا وطنًا أول لا يسقط من القلب أبدًا.
التعاون الذي شهدناه لم يكن مجرد تدريب لمقاتلين، بل كان تدريبًا للأمل، لليقين بأن الغد يمكن أن يكون أجمل، كان استعادة لجوهر بسيط ومغيب: أن العرب إذا اجتمعوا صاغوا المعجزات، وإذا تفرقوا تاهوا في الصحراء، لقد اجتمعنا هنا، فشعرنا للحظة أن الأمة لا تزال على قيد الحياة، وأنها قادرة أن تُنبت وردًا حتى من بين الركام.
وهكذا بدا المشهد: مصر والعراق كتفين لجسد واحد، واسم الخفاجي شاهد على أن الإرادة حين تخلص، يمكن أن تكتب فصولًا جديدة في كتابٍ كدنا نظن أنه أُغلق إلى الأبد. حين ظهر على شاشة قناة DMC خبر انتهاء التدريب، ورأيت الجنود العراقيين يتبادلون النظرات مع مدربيهم المصريين، أدركت أنني لا أتابع مشهدًا عابرًا من تمرين عسكري، بل لحظة فارقة في تاريخنا العربي. لحظة تكتب طريقًا جديدًا، وتفتح بابًا نحو أفق طال انتظاره.
هكذا بدا المشهد أمامي: مصر والعراق كتفين لجسد واحد، قلعتين تحرسان وطنًا أوسع اسمه العروبة، وإذا كان التاريخ قد وضع بين النيل ودجلة مسافات ومحن، فإن ما رأيته بأم عيني يُثبت أن اللقاء ليس ممكنًا فحسب، بل هو قدر وضرورة. لأن البطولة الكبرى لم تكن لشخص وحده، بل لذاك الجسر غير المرئي الذي بُني بين مدرب مصري ومقاتل عراقي، بين قلبين متفقين على نداء واحد: الأرض لنا… والمستقبل لنا… ولن نسمح أن يسرق أحد صوتنا مرة أخرى.