العنف أفيون العلمانية
محمد جواد الميالي
العنف ليس أداة تُستخدم عند الحاجة، بل جوهر متجذر، في كل حركات التوسّع والسيطرة، حتى غدا أفيوناً يتعاطى لتبرير كل مجزرة، وتطهير كل جريمة، وأكثر من استعمله العلمانيون تحت مسمى "التمدين" و"الحداثة".
حين نفتح السجل الأوروبي في أستراليا، نصطدم بمشهد فاجع لا يقبل التجميل، فالأرض هناك لم تكن فارغة كما صورها المستعمر، بل كانت عامرة بشعوب أصلية نسجت حضارة روحية وثقافية، ممتدة لآلاف السنين، غير أن الأوروبي حين جاء كان محملا ببندقية وبمرض وبأحكام مسبقة، فحوّل تلك الأرض إلى مختبر دموي، عشرات الآلاف من "الأبورجين" قُتلوا في ما عُرف بـ"حروب الحدود" ..
فيما زُج بالآخرين في هوامش النسيان، وسُرقت أراضيهم، وصودرت حياتهم، الأطفال كانوا الهدف الأسمى، خُطفوا من عائلاتهم، ووضِعوا في مؤسسات تغسل أدمغتهم، ليصبحوا نسخ مشوّهة من ثقافة بيضاء لم ترَ فيهم إلا مشروعا لمحوٍ بطيء، إنها الإبادة ولكن بوجهٍ "متحضر".
إذا عبرنا المحيط إلى القارة الأمريكية، نجد مأساة أكبر حجما وأشد قسوة، هنا جرى تحويل قارة بكاملها إلى مسرح للدماء، وجرى تسويقها لاحقا كـ"أرض الفرص" ملايين السكان الأصليون أُبيدوا بالرصاص أو حُكم عليهم بالموت جوعا ومرضا، و"درب الدموع" الذي سار فيه عشرات الآلاف من الهنود الحمر، لم يكن مجرد طريق تهجير قسري، بل كان طقسا من طقوس الفناء الجماعي، حيث مات الآباء والأمهات والأطفال على الطرقات، ليبقى العنوان الوحيد: إخلاء الأرض لأصحاب البشرة البيضاء..
حتى الناجون لم يُتركوا في سلام، فقد لحقت بهم مدارس داخلية تمارس عنفا ثقافيا، تنتزع اللغة من أفواههم، والعقيدة من قلوبهم، والهوية من أعماقهم، لقد أراد الغرب أن يُحوّل إنسانا حرا إلى كائن بلا ملامح، بلا ذاكرة، لينشروا بعدها ما يعرف اليوم بالحلم الأمريكي..
أما في غرينلاند، فإن العنف اتخذ شكلا أكثر دهاء وأشد سوداوية، فلم يعد الاستعمار بحاجة إلى البندقية، فالعلمانية التي تُقدّس الجسد حولت جسم المرأة لساحة حرب صامتة، هناك في منتصف القرن العشرين، قامت الحكومة الدنماركية، بزرع اللولب لآلاف الفتيات والنساء من السكان الأصليين دون علمهن أو موافقتهن، تحت شعار "تنظيم النسل" أي وقاحة أعظم من أن تُختزل المرأة إلى مجرد رحم، يجب ضبط إنتاجه ليتلاءم مع خطط الدولة؟ إنها إبادة جديدة، لكن بوسائل طبية هذه المرة، لم يكن الهدف علاجا ولا رعاية، بل كان جرحا مغروسا في صميم الجسم، يعلن أن جسد المرأة الأصلية ليس ملكا لها، بل هو مجال مباح لسلطة المستعمر.
بعد كل هذه المآسي، يقف الغرب متزيّنا بشعارات "حقوق الإنسان" و"الحرية" موجّها سهامه نحو الإسلام والعرب، متهما إياهم بأنهم يضطهدون المرأة ويقيدون حريتها، أي مفارقة أشد سخرية من هذه؟
الإسلام الذي أخرج المرأة من كونها سلعة أو أداة، ليجعلها شريكة حياة وأمّا يُبنى عليها المجتمع، يُتهم اليوم بالرجعية والظلامية، أما الغرب الذي حول المرأة إلى سلعة في الإعلانات، وأداة للمتعة في الأسواق، وموضوع تجارب في المستشفيات، فهو يقدّم نفسه باعتباره حامي كرامتها!
منذ القرن السابع عشر وحتى يومنا هذا، لم تُنتج الليبرالية والعلمانية سوى وجوه متعددة للعنف: إبادة هنا، تهجير هناك، اغتصاب صامت لحقوق الشعوب والأفراد، وكل ذلك جرى تسويغه بشعارات براقة عن الحرية والعقلانية والمصلحة العامة، إنها براغماتية مشبعة بالدماء، تقتات على الآخرين كي تخلّد نفسها.
يبقى السؤال الذي يطرق أبواب الضمير: اذا كان ذلك هو وجه الحرية لدى العلمانية، فكيف يكون وجه العبودية عندهم؟