هل نحن أمام مسيحٍ جديد؟
إسماعيل محمود محمد العيسى
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”
بهذه الكلمة بدأ أعظم انقلاب في التاريخ البشري، انقلاب من الجهل إلى العلم؛ من الغفلة إلى النبوة؛ من الرمال إلى الحضارة ، لكن يا للأسف؛ ما بدأ بالقراءة قد انتهى بالهجران وما جاء بالعلم قُبِرَ في ضجيج الجهل المقدّس.
في إحدى الجزر الصغيرة شرق آسيا جلست رئيسة وزراء سابقة لدولة لا تتجاوز مساحتها مساحة محافظة عراقية، تخاطب الأمم بكلمات هزت منصات الاقتصاد العالمي: “نحن لا نملك النفط، ولا الذهب، ولا عمقًا جيوسياسيًا… لكننا صنعنا شيئًا واحدًا: عقلاً يفكر!”
وحين سُئلت عن سر تفوق بلادها، أجابت: “استثمرنا في تلميذ اليوم… لأنه سيكون خبير الذكاء الاصطناعي غدًا.”
بينما كانت تلك الدولة الصغيرة تبني معامل البرمجة والخوارزميات كان البعض منا في وطننا العربي يعقد المؤتمرات عن “خطر الذكاء الاصطناعي على الهوية”، ويصدر الفتاوى عن حرمة التعامل مع “روبوتات الذكاء” لأنها تُشبه أعمال الله!
العالم اليوم لا يتحدث عن بترول أو سلاح… إنه يتحدث عن البيانات، في كل ثانية، يُضخ في الفضاء الرقمي ما يعادل عشرات الملايين من الكلمات، كلها تذهب إلى عقول اصطناعية تتعلم، تتطور، وتصبح أكثر دهاءً وفاعلية، هذه العقول لا تنام؛ لا تنسى؛ لا تتعب؛ ولا تنتخب!
هل تعلم أن بعض الدول الصغيرة التي لا يُذكر اسمها في نشرات الأخبار أصبحت اليوم تقود العالم في تصميم أنظمة الذكاء الصناعي؛ حتى إن الشركات الكبرى في أميركا وأوروبا تعتمد على شبابها في تطوير أدوات اللغة والطب والتعليم؟ هل تعلم أن ميزانية تطوير الذكاء الصناعي في “دولة خليجية واحدة” تجاوزت ميزانيات وزارات التربية والتعليم مجتمعة في 15 دولة عربية؟
يا للعجب… كأن العالم قد دخل في دين جديد، لا تؤمن فيه إلا بمنطق “المعرفة سلطة، والبرمجة عبادة، والذكاء صنم يُطاع”.
لقد غيّر الذكاء الاصطناعي طبيعة كل شيء: لم تعد الحروب تُخاض بالدبابات بل بالخوارزميات، ولم يعد النفوذ يُقاس بعدد الجنود بل بسرعة المعالجات (Processors)، ولم تعد الأرض تتسع للمتخلفين. فإما أن تفكر، أو أن تُدار.
وقد أخبرنا نبيّنا ﷺ قبل مايزيد عن 1400 سنة: “من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة”، لكن ماذا نقول عن أمة هجرت طريق العلم، وسلكت طريق التنازع والانقسام، ونامت تحت بعض عمائم التقديس الأجوف؟!
اليوم هناك “نبوءة رقمية” تُطبخ على نار هادئة: عقلٌ اصطناعي قادر على الحديث، الكتابة، الرسم، البرمجة، التشخيص، بل والقيادة السياسية هذا العقل يراه بعض الناس في الغرب كمخلصٍ رقمي، كنسخة حديثة من المسيح، بينما المسلمون والعرب يتراجعون دينيًا ودنيويًا، فلا هم حافظوا على جوهر الدين، ولا هم التحقوا بركب العالم.
ولعل أخطر ما في الأمر، أن كثيرين صاروا يؤمنون أن هذا “الذكاء” سيحل كل مشكلات العالم: سيشفي الأمراض، يُطيل الأعمار، يحكم بالعدل، بل ربما – كما تقول بعض الروايات– “يحيي الموتى كما كان يفعل عيسى ابن مريم”, ألا يذكّركم هذا بشيء؟ نعم، إنه المسيح الدجال.
لكن الدجال الجديد لا يأتي بعين واحدة، بل يأتي على شكل شاشة، على هيئة روبوت، أو ذكاء متصل بـ”السحاب الرقمي”، يراك، يسمعك، يفهمك، ويغريك… فهل أعددت له جوابًا؟
إننا اليوم أمام خيار وجودي: إما أن نعيد بناء الإنسان فينا على أساس “الوعي، والإبداع، والتقوى”، أو نبقى مستهلكين لنفط غيرنا، وغارقين في أزمات مفتعلة بينما العالم يضعنا في قائمة “الدول غير المؤثرة”.
على المربين أن يعيدوا ترتيب المناهج، وعلى العلماء أن يركبوا قطار الذكاء، وعلى الساسة أن يدركوا أن زمن الطوائف انتهى، وبات زمن العقول.
فيا أمة “اقرأ”، إن لم تبدأ الآن، فستُكتب نهايتك على يد آلة لا ترحم في عصرٍ لا يمجد إلا من يبتكر.
فهل من عقل يُفيق…؟