الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من المواجهة إلى التضامن.. هل تعيد طهران تعريف مشروعها الإقليمي؟

بواسطة azzaman

من المواجهة إلى التضامن.. هل تعيد طهران تعريف مشروعها الإقليمي؟

أسامة أبو شعير

 

في لحظة يشتد فيها الخناق الاقتصادي، ويعلو صوت الداخل الإيراني بالسؤال عن جدوى الصراع، تفرض الأرقام منطقها الصارم: الناتج المحلي لإيران لا يتجاوز 1.5بالمئة من الناتج الأمريكي، والإنفاق العسكري لا يُقارن، ودخل الفرد في هبوط، بينما الجيل الجديد يطلب المستقبل لا الشعارات. فهل آن أوان الانتقال من منطق التأثير بالقوة إلى مشروع نفوذ قائم على التضامن والثقة؟

في زمن يتحدث فيه الاقتصاد بلغة صارخة، يصبح الصمت السياسي نوعًا من المكابرة.

وحين تُظهر الأرقام أن الناتج المحلي لإيران بالكاد يوازي 1.5 بالمئة  من الاقتصاد الأمريكي، وأن إنفاقها العسكري لا يتجاوز 0.8 بالمئة  من الإنفاق الأمريكي، فإن السؤال لا يعود: هل تستطيع إيران الانتصار في المواجهة؟ بل يصبح: هل من العقلاني أن تبقى في هذه المواجهة أصلًا؟

متوسط الدخل

تقدّر قيمة الناتج المحلي الإيراني بنحو 464 مليار دولار، مقارنةً بـ29 تريليون دولار للولايات المتحدة. ويبلغ متوسط دخل الفرد في إيران نحو 5,300 دولار سنويًا، مقابل 85,800 دولار للمواطن الأمريكي. أما على صعيد الإنفاق العسكري، فالفارق مذهل: 7.9 مليار دولار لإيران مقابل نحو 997 مليارًا للولايات المتحدة، أي أن واشنطن تنفق سنويًا ما يقارب الناتج القومي الإيراني بأكمله على قطاع الدفاع فقط.

هذه الأرقام ليست مجرد فروقات اقتصادية. إنها تمثّل الفجوة بين الإمكانيات الحقيقية والخطاب السياسي. ولهذا تحديدًا، يطرح البعض السؤال المؤلم: أليس من الحكمة أن تُراجع طهران خياراتها الاستراتيجية؟ وهل من الممكن أن تنتقل من منطق الصراع المفتوح إلى منطق الواقعية السياسية؟

عقلانية سياسية أم عقيدة أيديولوجية؟

لكن السؤال عن العقلانية في الحالة الإيرانية لا يمكن أن يُطرح ببساطة بلغة الحسابات الاقتصادية فقط. فإيران ليست دولة تُدار بمنطق الربح والخسارة فقط، بل بمنظومة مركبة من الرمزية الثورية، والشرعية التاريخية، والأولويات العقائدية. ولهذا فإن “الانكماش الاستراتيجي”، ولو كان مفيدًا اقتصاديًا، قد يُنظر إليه داخليًا كخيانة لمبادئ الثورة أو ضعف في وجه الخصوم.

1. الشرعية السياسية مرتبطة بالصمود

النظام الإيراني قام على وعد بالمقاومة الدائمة ضد “الهيمنة الغربية”. أي تحوّل جذري في السياسات الخارجية قد يُفقده هذا الرصيد الرمزي. التراجع في الملفات الإقليمية أو الملف النووي، دون مكاسب واضحة، قد يضعف تماسك الجبهة الداخلية التي طالما تم تحفيزها عبر شعارات “الصبر والصمود”.2. النفوذ الإقليمي كورقة مساومةلا ترى طهران في وجودها الإقليمي هدفًا بحد ذاته، بل أداة تفاوض قوية. النفوذ في العراق وسوريا ولبنان واليمن يُستخدم كمقابل في صفقات كبرى، وليس مجرد تعبير عن طموحات توسعية. ولهذا، فإن التخلي عنه دون مقابل يعني خسارة مزدوجة: في الجغرافيا وفي المفاوضات.

3. الذاكرة التاريخية مليئة بالشك

من الانقلاب على حكومة مصدّق عام 1953 إلى دعم الغرب لصدام حسين في الحرب، تشكّلت في العقل السياسي الإيراني قناعة بأن الثقة في النيات الغربية مكلفة. لذا، فإن التهدئة السريعة لا تُعد ضمانًا، بل قد تُفهم كفخّ.

لكن المعركة الحقيقية انتقلت إلى الداخل

رغم هذا الإطار العقائدي، إلا أن التحديات الكبرى التي تواجه إيران لم تعد خارجية في جوهرها. البطالة المرتفعة.

التدهور المستمر في سعر العملة، وتراجع الخدمات العامة كلها مؤشرات على أن الداخل الإيراني يئنّ. فجيل الشباب الإيراني، المتعلّم والطموح، لم يعد يكتفي بالشعارات. هو يطالب بفرصة حياة، لا بموقع في محور مقاومة لا يراه يُثمر.

حتى في فترات الانفراج النسبي، مثل ما بعد الاتفاق النووي عام 2015، لم يلمس المواطن العادي تحسنًا جوهريًا.

 وهذا يعيد السؤال حول جدوى تخصيص الموارد للنفوذ الإقليمي، في حين يعاني الاقتصاد المحلي من بنية متآكلة وفقر في الاستثمار.

ما بين الانكماش والانفجار: هل من بديل؟

الخيار ليس بين الاستسلام أو المواجهة فقط، بل بين الاستنزاف المتراكم الذي قد يقود إلى انفجار اجتماعي، وبين إعادة تموضع مدروسة تنقذ ما تبقى من الداخل وتُبقي على أوراق القوة بذكاء.

البديل العقلاني الذي يمكن أن تسلكه إيران لا يعني إلغاء دورها الإقليمي، بل إعادة تعريفه ضمن استراتيجية “التأثير الذكي”.

التهدئة المدروسة مع دول الجوار قد تعيد فتح نوافذ اقتصادية مفقودة، من دون تقديم تنازلات كبرى.

التفاوض النووي الجاد قد يكون بوابة لتخفيف العقوبات وتحريك عجلة الاستثمار.

التركيز على الداخل يعيد للنظام الإيراني جزءًا من شرعيته الاجتماعية المفقودة. هل تعود التيارات الإصلاحية بعد التهدئة؟ سؤال جوهري يرتبط بما بعد وقف إطلاق النار، وما إذا كانت البيئة السياسية الإيرانية ستفتح نوافذ لإعادة الاعتبار للصوت الإصلاحي. تاريخيًا، نشطت التيارات الإصلاحية في فترات ما بعد الأزمات، حين يبحث المجتمع عن خطاب عقلاني بديل، ويُطرح سؤال: “إلى أين نحن ذاهبون؟”.

لكن النظام الإيراني بطبيعته لا يتيح لهذه التيارات صعودًا حقيقيًا إلا عندما يشعر أن الاستمرار على المنوال القديم قد يكلفه الكثير. ومع أن صُناع القرار لا يتخلّون عن أدواتهم، إلا أنهم يعرفون متى يعيدون تدوير النخبة.

الشخصية الإيرانية العميقة، من جهة أخرى، تُعطي لهذا الطرح وزنًا خاصًا. هذا شعب لديه ذاكرة طويلة، ووعي تاريخي متراكم، وصبر سياسي شديد — لكنه ليس بلا نهاية. وحين يشعر أن التضحيات لم تعد تُترجم إلى كرامة معيشية، يبدأ بالبحث عن بدائل… وعندها يعود الإصلاحيون إلى الواجهة كحاملي أمل، ولو كان محدودًا.

خاتمة: حين لا يكفي التاريخ وحده

لا أحد ينكر أن إيران قوة إقليمية لها وزن وتأثير.

ولكنها أيضًا دولة تعاني من اختناق اقتصادي واجتماعي لا يمكن تجاهله.

التاريخ وحده لا يبني المستقبل. والتضحيات لا تثمر إلا إذا ترافقت مع قرارات استراتيجية ذكية.

العقلانية هنا لا تعني الخضوع، بل البقاء. لا تعني نسيان المبادئ، بل ترجمتها إلى مشروع يضمن الأمن… والعيش… والكرامة.

فهل آن أوان المراجعة؟ وهل تصغي طهران… قبل أن تتكلم النار بدل الأرقام؟

 

خبير اقتصادي ومستشار دولي للسياسات التعليمية والتنمية

 


مشاهدات 87
الكاتب أسامة أبو شعير
أضيف 2025/06/25 - 3:17 PM
آخر تحديث 2025/06/26 - 5:37 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 403 الشهر 16377 الكلي 11151031
الوقت الآن
الخميس 2025/6/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير