إستراتيجية تضاد الشخصيات السياسي.. تقويض الإنجازات وتعطيل التنمية المستدامة
احمد فكاك البدراني
ليس جديدا تنافس رجال السياسة وشخصياتها ، بل هو قديم قِدم التأريخ السياسي ، وقد وصل في بعض الأزمنة الى قتل الأبناء او الإخوه ، وليس بعيدا تاريخ الدولة العثمانية وقبلها الدولة العباسية ، وقد صدق قائلهم ، حين قال عبد الرحمن الداخل مقولته المشهورة ( المُلك عقيم )
في الوقت الذي تتطلع فيه الشعوب إلى تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة ، تظهر على السطح ظاهرة مقلقة تعيق هذه المساعي وتفرغها من محتواها ، وهي استراتيجية التضاد بين الشخصيات السياسية.
هذه الاستراتيجية التي تقوم على افتعال أو تغذية الصراع بين الزعامات والنخب السياسية ، لا تعكس تنافسًا ديمقراطيًا صحيًا بقدر ما تمثل حالة من الشلل المؤسساتي والتدهور في الثقة العامة ، مما يؤدي في المحصلة إلى تقويض الإنجازات وتعطيل مسارات التنمية المستدامة.
أولًا: مفهوم استراتيجية التضاد السياسي :
خلاف سياسي
التضاد بين الشخصيات السياسية لا يعني بالضرورة مجرد اختلاف في الرؤى أو البرامج ، بل هو تحول الخلاف السياسي إلى صراع شخصي أو عدائي ، تُستخدم فيه أدوات الإعلام والتعبئة الجماهيرية ووسائل التواصل الاجتماعي لتشويه الخصوم ، لا لإقناع الرأي العام.
يتحول هذا التضاد إلى استراتيجية عندما يصبح نهجًا مقصودًا تستخدمه أطراف سياسية من أجل إضعاف أو إسقاط خصومها حتى لو كان الثمن تعطيل مؤسسات الدولة أو الإضرار بالمصلحة العامة.
ثانيًا: آثار التضاد السياسي على الإنجازات الوطنية :
عندما يسود التضاد بين الشخصيات السياسية ، تتعرض الإنجازات الوطنية للتقويض والتشويه ، حتى وإن كانت هذه الإنجازات ذات أثر إيجابي مباشر على المواطنين. فغالبًا ما تُرفض السياسات أو تُهاجم لمجرد أنها ارتبطت باسم شخصية سياسية معينة ، دون النظر في جوهرها أو نتائجها. هذا النوع من السلوك يعيق تراكم الخبرات ويدمر مفهوم الاستمرارية في السياسات العامة ، مما يؤدي إلى حالة من الانقطاع وعدم الاستقرار.
كما أن هذا النهج يولّد ثقافة عدم الاعتراف بالآخر ، وهو ما ينعكس في غياب التوافق الوطني ، وتضاؤل فرص تشكيل حكومات فاعلة ، وانشغال الأجهزة التشريعية والتنفيذية بالصراع السياسي بدلاً من خدمة المواطنين وتحقيق أهداف التنمية.
ثالثًا: تعطيل التنمية المستدامة :
التنمية المستدامة ، بطبيعتها ، تحتاج إلى رؤية بعيدة المدى واستقرار سياسي ومؤسسي. وهي تقوم على ثلاثة أبعاد مترابطة: الاقتصادي ، الاجتماعي ، والبيئي.
غير أن التضاد السياسي يعطل هذه الأبعاد جميعًا:
•اقتصاديًا: يؤدي الصراع السياسي إلى انعدام الثقة في المناخ الاستثماري ، وهروب رؤوس الأموال ، وتراجع النمو. المستثمرون يبحثون عن بيئة مستقرة وقابلة للتنبؤ ، لا عن مشهد سياسي مضطرب.
•اجتماعيًا: يولد التضاد حالة من الاستقطاب المجتمعي الحاد ، إذ ينقسم الناس بين ولاءات لشخصيات بدلًا من الانخراط في حوار وطني حول القضايا الأساسية.
هذا الاستقطاب قد يؤدي إلى أزمات هوية ، وتفكك مجتمعي ، وزيادة في الكراهية والعنف.
•بيئيًا: في ظل الصراع السياسي ، تُهمش قضايا البيئة والتغير المناخي ، إذ لا تحظى بالأولوية أمام الصراعات السلطوية ، على الرغم من أن الاستدامة البيئية تتطلب سياسات طويلة الأمد تتجاوز الدورات الانتخابية والصراعات الشخصية.
منصات الكترونية
رابعًا: الإعلام وتأجيج التضاد السياسي :
يلعب الإعلام ، لا سيما الإعلام الحزبي والمنصات الإلكترونية ، دورًا محوريًا في تأجيج التضاد بين الشخصيات السياسية. فعوض أن يكون الإعلام رافعة للتوعية السياسية والنقاش العقلاني ، يتحول إلى أداة للتشهير وتصفية الحسابات ، مما يزيد من حدة الانقسامات ويعمّق أزمة الثقة بين المواطنين والدولة.
خامسًا: نحو تجاوز التضاد السياسي :
لإخراج الحياة السياسية من هذا المأزق ، لا بد من إعادة الاعتبار لمبدأ التنافس الشريف ، والتركيز على البرامج لا الأشخاص. ويمكن اتخاذ خطوات عدة منها:
1. تعزيز ثقافة الحوار السياسي وتكريس آليات المصالحة الوطنية.
2. إصلاح النظام الحزبي ليقوم على أساس برامجي لا شخصي.
3. ضبط الإعلام السياسي ومنعه من التحول إلى منصات للفتنة والفرقة.
4. تعزيز دور المجتمع المدني في الرقابة والمساءلة والنقد البناء.
5. دعم القضاء والمؤسسات الدستورية لضمان الحياد والفصل بين السلطات.
ويمكن الجزم إن استراتيجية التضاد بين الشخصيات السياسية لا تخدم سوى مصالح ضيقة ، وتفتح الباب أمام انقسامات خطيرة تعرقل مسيرة التقدم والاستقرار.
ولتحقيق التنمية المستدامة ، لا بد من تجاوز الصراعات الشخصية والارتقاء بالخطاب السياسي إلى مستوى المسؤولية الوطنية ، حيث يكون الخلاف وسيلة للإثراء لا أداة للهدم.
الأوطان تُبنى بالتوافق لا بالتضاد ، وبالبرامج لا بالشخصنة.
وزير الثقافة والسياحة والآثار