ضربة إسرائيل لإيران.. تحوّل في قواعد الإشتباك أم مقامرة إستراتيجية ؟
محمد عبد الجبار الشبوط
في فجر الثالث عشر من حزيران/يونيو 2025، لم تكن إيران كما كانت في اليوم الذي سبقه. فقد نفذت إسرائيل ضربة جوية نوعية، استهدفت منشآت نووية وعسكرية داخل العمق الإيراني، وأسفرت – بحسب التقارير الأولية – عن مقتل قيادات رفيعة في الحرس الثوري، وتدمير مواقع حيوية على صلة بالبرنامج النووي والصاروخي.
لكن ما جرى لا يمكن اختزاله في مجرد عملية عسكرية ناجحة، بل هو لحظة فاصلة في قواعد الاشتباك الإقليمي، وفي معادلات الردع، وفي التوازنات الدقيقة التي ظلّت تضبط الشرق الأوسط لسنوات.
من الردع إلى الفعل
منذ عقود، تبنت إسرائيل ما تسميه “عقيدة الغموض” بشأن قدراتها النووية، و”عقيدة بيغن” بشأن منع خصومها من امتلاك السلاح النووي. لكنها في السنوات الأخيرة انتقلت من ردع الخصوم إلى منعهم بالقوة من تطوير أدوات الردع الخاصة بهم. وهذا ما جرى مع العراق (1981)، وسوريا (2007)، ويجري اليوم مع إيران (2025).
الفرق هذه المرة أن الخصم ليس مجرد منشأة نووية معزولة، بل منظومة كاملة من التطلعات والتحديات: دولة بحجم إيران، بامتداد أيديولوجي وعسكري في أربع عواصم عربية، وببرنامج نووي متقدم، وبتوقيت سياسي داخلي هش.
قراءة في التوقيت
جاءت الضربة الإسرائيلية في لحظة تتقاطع فيها ثلاثة عناصر:
الاستعصاء النووي: تعثر المفاوضات، وارتفاع نسبة تخصيب اليورانيوم الإيراني إلى مستويات تقترب من “العتبة النووية”.
الفراغ القيادي النسبي في إيران بعد وفاة خامنئي، وتعدد الأجنحة داخل النظام.
الانشغال الأمريكي الداخلي بصيف انتخابي محتدم، وضعف التغطية السياسية لأي تحرك عسكري أمريكي جديد في الشرق الأوسط. إسرائيل فهمت اللحظة كـ”نافذة فرصة”، وقررت استغلالها بأقصى ما تستطيع.
رد فعل إيران… بين العنف والتردد
ردت طهران بإطلاق أكثر من 100 طائرة مسيّرة نحو إسرائيل، وهو ردّ رمزي من الناحية العسكرية، لكنه مهم سياسيًا ورساليًا.
ورغم الخطاب الثوري عالي النبرة، فإن النــــــــــظام الإيراني لم يدخل بعد في دائرة التصعيد الواسع، ما يشير إلى وعي عمـــــيق بكلــفة المواجهة المباشرة، لا سيما في ظل هشاشة الوضع الداخلي وتهالك البنية الاقتصادية.
إيران اليوم ليست في موقع يسمح لها بخوض حرب طويلة، لكنها أيضًا لا تستطيع إظهار الضعف. لذا، يُتوقع أن تلجأ إلى ردود غير متماثلة عبر وكلائها في المنطقة، أو من خلال هجمات إلكترونية، أو تصعيد محدود في مضيق هرمز.
العالم يراقب بصمت
المفارقة أن الردود الدولية جاءت باهتة. فلا إدانة مباشرة، ولا دعم صريح. وكأن النظام الدولي يوكل الضربات الكبيرة إلى اللاعبين الإقليميين حين يعجز عن الحسم السياسي. وهنا تظهر معضلة القانون الدولي، الذي بات عاجزًا عن ضبط التفلت العسكري تحت ذريعة “الحق في الدفاع الاستباقي”.
أما الدول العربية، فبين مرتاح سرًّا من الضربة، وخائف علنًا من توسع الصراع. وحدها الشعوب بقيت في موقع المراقب المتشكك: هل هذه ضربة ضد نظام سياسي أم ضد وطن؟ ضد طموح نووي أم ضد أمة كاملة؟
ملاحظات ختامية
نحن أمام مرحلة جديدة من اللايقين، حيث الردع لم يعد مضمونًا، والقانون الدولي لم يعد كافيًا.
إسرائيل أرادت أن تقول: “نحن من يحدد قواعد اللعبة”، لكن اللعبة لم تنتهِ بعد. إيران أمام اختبار: هل تحافظ على موقعها كقوة إقليمية أم تغامر بما تبقى من استقرارها الداخلي؟
المنطقة برمّتها قد تكون على حافة تصعيد زاحف… إلا إذا التقطت العواصم الكبرى الرسالة، وأعادت ترتيب الطاولة.
الدولة الحضارية في قلب المعادلة
بالنسبة لنا، كمنظّرين لمشروع الدولة الحضارية الحديثة، فإن ما يجري يطرح سؤالًا مصيريًا: كيف توازن الدولة بين حقها في الأمن القومي وواجبها في احترام القانون الدولي؟ بين المبادئ والمصالح؟ بين الحكمة والقوة؟ نحن نؤمن أن الدولة الحضارية لا تكون فاعلًا عاقلًا في العلاقات الدولية إلا حين تكون قوية، عزيزة، محصنة، ومتمسكة في الوقت ذاته بقيمها العليا. وإن مواجهة العدو من موقع الضعف لا تؤدي إلى الردع، بل إلى الفوضى.