ليس بالتعالي.. بالمحايدين تستقيم أحوال المنطقة
فؤاد مطر
كانت التسوية المأمول إنجازها لوقف العدوان الإسرائيلي على غزة وإستمرار حركة «حماس» في تنفيذ عمليات تستهدف العسكريين الذين يشاركون في العدوان، تتطلب الدولة المحايدة بمعنى أن تكون عادلة في التقييم وفي وضْع بنود إتفاقية سلام.
ولكن إحتكار الرئيس دونالد ترمب للمسعى من منطلَق أنه رمز القوة الأعظم وأن هذه الميزة تسهِّل فرْض التسوية التي يرسم خطوطها بالتعاون مع مستشاريه، أثمر إرتباكاً للتسوية المأمولة. لم يكن الرئيس ترمب محايداً، بل إنه أبدى من المواقف ما جعل سعيه لا يكتسب المصداقية. كما بدا في ما يدلي به من تصريحات وفي مَن أسند إليهما مهمة بذْل المساعي لتحقيق تسوية منصفة وثابتة، أنه مع إسرائيل حتى إذا بلغ العدوان من جانبها مستوى الإبادة والتدمير والتجويع ليس فقط قبْل الشروع بالإعلان عن مساعي التسوية، وإنما حتى بعد أن تزعَّم قمة «شرم الشيخ» وقال من الكلام حولها إنها إنجاز تاريخي.
استئناف القتال
ولنا على سبيل المثال لا الحصر وفيما إسرائيل البنيامينية تواصل العدوان، قوله قبْل ساعات من إنعقاد «مؤتمر شرم الشيخ» بعد أن يكون زار إسرائيل «إنني سأسمح للقوات الإسرائيلية بإستئناف القتال في قطاع غزة إذا رفضت «حماس» نزْع سلاحها».
وكرر إبداء النوايا من خلال القول: «إذا رفضت حماس نزْع سلاحها ستعود إسرائيل إلى تلك الشوارع بكلمة مني. إذا كان بوسع إسرائيل الدخول إلى غزة والقضاء عليهم فستفعل ذلك!».
هنا يصبح جائزاً الإفتراض أن الحالة الحمساوية – الغزاوية ستبقى عالقة مع فترات من التهدئة. ولن يُحسم الأمر إلاّ بعد إنتخابات تُجرى في القطاع المثخن بدماء الألوف من الشهداء ويشرْف عليها ممثلو دول محايدة. وفي هذه الحال يسود السلام الذي بغاه الرئيس ترمب من قمة «شرم الشيخ» والتي لم تأتِ إنعقاداً وقرارات على النحو الذي كان يأمل حدوثه، وهو أن تكون القمة أفضل مناسبة في تخطيطه لكي يحقق فيها ما كان بدأه عن طريق صهره (اليهودي) ومستشارين من الهوى نفسه والديانة نفْسها بينهم ويتكوف الذي أطرى الرئيس ترمب مزاياه بمثل إطراء مزايا رئيس وزراء إسرائيل نتنياهو، وذلك خلال الخطاب الذي ألقاه مِن على منصة البرلمان الإسرائيلي بعد ساعات من وصوله إلى تل أبيب، بادئاً منها ما يجوز لكاتب يتابع مسيرة الرئيس ترمب ومسيرته الإفتراض أن زيارة إسرائيل وإلقاء الخطاب مِن على منصة الكنيست وإغداق عبارات الإعجاب والتقدير خص بها حليفه بنيامين نتنياهو مع الحرص على تدليعه أمام الجمع البرلماني الإسرائيلي المتنوع التوجهات، من خلال تسميته «بيبي»، لها ما بعدها... إن الزيارة تلك تمت وليس كما الأصول الذهاب أولاً إلى «شرم الشيخ» ما دام هو رئيس المؤتمر. لكن الرئيس ترمب كان يروم في ضوء العبارات الإطرائية التي صدرت عنه ووصلت إلى حد مطالبة القضاء الإسرائيلي بإصدار العفو عن نتنياهو وبذلك لا ينتهي سجيناً بعد أن يتم الفرز الحقيقي للوقائع والتحالفات المريبة، إصطحاب نتنياهو في طائرة الرئاسة الأميركية إلى «شرم الشيخ» وبذلك يضع القادة العرب الذين إفترض مشاركة شاملة منهم أمام أمر حالة تطبيع بقوة الإحراج، وذلك لأن هنالك مَن يأخذ مكانة ترمب عنده في الإعتبار ولا يريد إحراجاً تنقله الفضائيات على أنواعها. وإزاء هذا الإفتراض فإن القادة الأساسيين وتحديداً ولي العهد السعودي رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان كان أكثر المتحسبين لما نشير إليه، وربما جرت بينه وبين قادة خليجيين وبين مستضيف المؤتمر صديقه الرئيس عبدالفتاح السيسي إتصالات إستهدفت صواب تمثيل دولهم على مستوى وزراء تفادياً للإحتمال الذي أشرنا إليه وهو أن يكون نتنياهو جنباً إلى جانب ترمب في قمة «شرم الشيخ» وينهي بالمصافحة الحذر العربي والخليجي بشكل خاص من العلاقة معه.
وهؤلاء القادة العرب خيراً فعلوا بنصف مقاطعتهم ﻟ «مؤتمر شرم الشيخ».
نصف مقاطعة
ونقول نصف مقاطعة على أساس أنهم أرسلوا من يمثِّل الحكومات وبذلك أبقوا على المسافة إياها من موضوع التطبيع الذي يريده ترمب من دون التبصر بحساسية العرب والمسلمين إزاء القضية الفلسطينية وطناً وشعباً ومقدسات، ويرى العقلاء أن تجربة التطبيع التي تمت كانت بمثابة نزوة سياسية وإجتهادات غير محسوبة بدقة. ولن يزيل هذه الرواسب في تاريخ الأمة سوى التسليم بصيغة الدولتين. وها هي تسع دول أعضاء في الإتحاد الأوروبي (فرنسا. قبرص. اليونان. كرواتيا. إيطاليا. مالطا. سلوفينيا. إسبانيا. البرتغال) تؤكد في قمة عقدها قادة هذه الدول المنصفة للحق والعدالة يوم 20 تشرين الأول 2025 «إن الحل الدائم لقطاع غزة والمنطقة يتحقق بحل الدولتيْن وفْق قرارات مجلس الأمن وإعلان نيويورك». وهذه الدول ليست وحدها التي ترى صيغة الدولتين حلاً، وإنما هنالك المزيد من دول القارات الخمس ترى ذلك، لكن الذي يعطل هذا التوجه الموضوعي والذي يخفف من متاعب عدم الأخذ به هي الإدارة الأميركية بتحالفها غير المحترم مع إسرائيل المعتدية والذي سيصبح تحالفاً محترَماً عندما تُقر أن الدولة الفلسطينية هي بمثابة الحل العادل والآمن للشعبين وتبييض سمعة هذه الإدارة وتلك الإدارات السابقة بتفاوت المواقف بين الموقف السيء والموقف الأقل سوءاً. ومِن باب التمني ليت الدول التسع المنصفة تكون، بدل الإدارة الأميركية، هي التي تتولى القيام بمهمة الوسيط بين «حماس» التي ليس من السهل إلغاء دورها الوطني وعُمق شعبيتها الفلسطينية في القطاع والضفة والمخيمات في دول عربية وبين إسرائيل التي يكون برلمانها وشعبها وجيشها إختار حكومة متعقلة تخلُف حكومة نتنياهو التي ذاق الشعب الإسرائيلي في سنوات ترؤسه الحكومة مرارة الخوف من الصواريخ اليمنية والإيرانية وقبْل ذلك صواريخ «حزب الله»، فضلاً عن مرارة المبيت في الملاجىء والهجرة المتنامية لجيل من الشباب والإقتصاد المتزعزع الأصول والصناعات التكنولوجية.
وكما في التروي تفادي المخاطر، فإن في صيغة محايدين لا تتسم خصالهم بالتعالي هي الأكثر جدارة في جعْل الأحوال تستقيم في المنطقة من غزة إلى لبنان.. والله المعين.