الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
خير جليس وأسماء ملهمة.. حين يتعانق الأدب مع التأملِ في سفر المعرفة


خير جليس وأسماء ملهمة.. حين يتعانق الأدب مع التأملِ في سفر المعرفة

طه خضير الربيعي

 

في زمنٍ تتكاثرُ فيه النصوص وتتشابه الأصوات، وتغيب فيه المعايير الجمالية التي تميّز بين صدى الروح وضجيج الكلام، يخرجُ إلينا كتابٌ مثل (خير جليس وأسماء ملهمة) للأديب والصحفي الأستاذ أحمد عبد المجيد، كنافذةٍ مفتوحة على الضوء، وكصوتٍ دافئ وسط عواصف التكرار.

الكتاب صادرٌ عن دار الرفاه للطباعة والنشر في بغداد 2025، ويقع في( 272) صفحة من القطع الصغير، لكنه في حقيقته، كتابٌ يفوق حجمه، ويعلو على تصنيفاته، فيمزج بين دفتيه عوالم القراءة، وفلسفة الكتابة، ودهشة التلقي، ليغدو مرآةً لرحلة تأمل طويلة خاضها المؤلف في دهاليز الحرف، ومرافئ الفكر، ومنازل الإبداع.

يأتي العنوان (خير جليس وأسماء ملهمة) كعتبة أولى تشي بروح الكتاب قبل محتواه.

هو ليس مجرد تجميع للكلمات، بل هو بيانٌ تأملي يختزل فلسفة المؤلف تجاه القراءة والكتابة، ويُلمح إلى أن الكتاب ليس فقط ما يُقرأ، بل هو من يُرافقنا بصمت، من يُربّت على أرواحنا في العزلة، من يمنحنا خلاصًا رمزيًا حين تضيق بنا الحياة.

(خير جليس) استعارة كلاسيكية، لكنها هنا تعود بروح جديدة، أما (أسماء ملهمة)، فهي المفتاح الذي يفتح أبواب النصوص على تجارب كتّاب ومبدعين، وقف المؤلف أمامهم لا بوصفه ناقدًا فحسب، بل قارئًا عاشقًا، ومؤرخًا للمسافة الفاصلة بين الكلمة ومصدر إلهامها.

الكتاب يتضمّن مجموعة من التقديمات الأدبية التي كتبها المؤلف لمجموعة من الكتب التي أصدرها أصدقاء وزملاء، من كتّاب محترفين وهواة، بعضهم خاض غمار الكتابة بشغف المبتدئين، وآخرون جاؤوا إليها من دروب الفكر والإبداع، متكئين على تجارب ثرّة.

 لكن أحمد عبد المجيد لا يكتب لهم كمجامل، بل كمُضيءٍ للنص، كمن يدخل غرفة مظلمة ويمسك بالضوء من جوانبها، ليكشف ما خفي من روح النص وما انكمش خلف الحروف.

في هذه التقديمات، يظهر الصحفي الرصين، والمثقف الحصيف، الذي لا تغريه المجاملة ولا يرهقه التكرار، بل يشتبك مع النصوص بوعي نقدي، فيحوّل المقدمة إلى قراءة ثانية، ويعيد تعريف الكتاب لا من عنوانه، بل من داخله، حيث تقيم المعاني الأكثر صدقًا.

يمثّل هذا العمل امتدادًا لمبادرة (خير جليس) التي يُشرف عليها المؤلف، وهي مبادرة تهدف إلى نشر ثقافة القراءة من خلال تلخيص الكتب المُلهمة بلغة مبسطة وعميقة في آنٍ معًا، بعيدًا عن السطحية أو الإسقاط.

إذ يرى المؤلف، أن التبسيط ليس تفريغًا للمعنى، بل تمريرٌ ناعم له إلى عقل القارئ، وأن الثقافة لا تعني التعقيد، بل الوصول إلى القلوب والعقول معًا.

صحيفة عريقة

ولم يقتصر الكتاب على التقديمات فقط، بل احتوى على مقاربات نقدية وانطباعية كتبها المؤلف لعدد من الكتب في صحيفة الزمان العريقة، التي يرأس تحريرها.

وهذه المقاربات، وإن اتخذت شكل المراجعات الصحفية، إلا أنها ترتقي في مضمونها إلى قراءة فكرية وفنية متعمقة، تُعيد إنتاج النصوص ضمن سياقاتٍ فكرية وجمالية تُضيء الأثر وتُستخرج الجوهرة من بين السطور.

فهو لا يكتفي بقراءة العنوان أو تسطير الانطباع الأول، بل يغور في النسيج النصي، مستخرجًا منه ما يدهش وما يُحرّك، فيغدو الناقد هنا، بمثابة قارئ ثاني للنص، وشريك في إعادة بعثه.

من خلال هذا الكتاب، يُعيد أحمد عبد المجيد تعريف دور الكاتب الصحفي، إذ لا ينحاز إلى موقع المراقب من بعيد، بل يتحول إلى شاهد ومفسّر، محاور وناقد، متأمل ومُلهم. كتاباته تنطلق من محبةٍ عميقة للمعرفة، ومن احترامٍ كبير للنص، ومن إيمان بأن الكتابة ليست وظيفة بل حالة وجدانية، وعلاقة وجودية بين الكاتب ونصه، بين القارئ ومتلقيه.

وهو بذلك لا يقدّم محتوى معرفيًا فقط، بل يُقدّم نموذجًا للكاتب الذي يرى الكتابة كوسيلة لخلق المعنى، وكفعل محبة تجاه القارئ، وكاستجابة صادقة لما يُمليه الضمير الأدبي.

رغم أن الكتاب لا يتجاوز من حيث الحجم حجم الكتيب، إلا أن محتواه يُقارب فكرة المشروع الثقافي المتكامل، الذي يهدف إلى توثيق الحركة الإبداعية المعاصرة، والاحتفاء بالأصوات الجديدة، وتسليط الضوء على تجارب مهمة في الأدب والفكر.

هو إضافة نوعية إلى المكتبة العراقية والعربية، وكتابٌ يصلح أن يكون مرجعًا ورفيقًا، ووقفة تأملية في زمن التسارع، ومتنفّسًا فكريًا في عالم يزداد ضيقًا بالمعنى.

(خير جليس وأسماء ملهمة) ليس مجرد كتاب عن كتب، ولا تجميعًا لمقدمات أو مراجعات، بل هو وثيقة أدبية وفكرية تُجسّد رؤية كاتب يؤمن بأن الكلمة، حين تُكتب بصدق، قادرة على مقاومة النسيان، وأن المعرفة ليست غاية فحسب، بل تجربة وجودية، طريقٌ لفهم الذات، والعالم، والآخر.

وفي زمنٍ تكثر فيه النصوص وتقلّ فيه النفوس الصادقة التي تكتب من القلب، يأتي هذا العمل ليقول: لا يزال للكلمة مكانٌ، ولا يزال للكاتب دور، ما دام هناك من يؤمن أن الكتاب هو خير جليس، وأن الإلهام لا يموت ما دام هناك من يُشعل شعلته في العتمة.

 

 


مشاهدات 63
الكاتب طه خضير الربيعي
أضيف 2025/10/17 - 10:33 PM
آخر تحديث 2025/10/18 - 7:48 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 256 الشهر 11786 الكلي 12151641
الوقت الآن
السبت 2025/10/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير