مشاهدات من أرض الكنانة مصر العربية (7)
الإسكندرية ترابها زعفران وهواؤها الجميل العذب يشفي العليل
رعد أبو كلل الطائي
ترتبط مدينة الإسكندرية في ذهن السائح العربي، بالأصطياف والأسترخاء على رمالِ شاطِئها الجميل، إلا إن لعروس البحر بُعداً آخرَ يجعلُها موئِلاً نوعياً للثقافة والترفيه، إذ توفر لزائريّها خاصةً الأجانب فُرصةً نادرةً لزيارة معالِمَ آثارية وبيئيةً وفريدةً، وتكتمل الجولات السياحية على شواطئ الإسكندرية، بقضاء أوقاتٍ مُمتعةٍ في حدائق القصور الملكية التي شيدتها أُسرة محمد علي باشا الكبير طوال العقود المتعاقبة في مدينة الإسكندرية، وتُعد القصور الملكية وحدائقها، أحدّ رموز الجمال النادرة في العالم، ومن بين هذه القصور، قصر إبراهيم باشا، وقصر المحمودية، وقصر الفاروق، ثم قصر رأس التين وغيرِها، ويتميزّ كُل مِنها، بمبانيهِ المعمارية الراقية، وبحدائقهِ الخلابةِ، وأشجارهِ المُثمرة التي تحمل عِبقّ التأريخِ بين أغصانِها .
عراقة وأصالة
وأتسمت القصور الملكية في الإسكندرية، بالعراقة والأصالة، وكذلك المزج بين الطراز المعماري الإسلامي والأوربي، فضلاً على إنها شهِدتّ أحداثاً تأريخيةً مُهمة لتُسجلَ بهذا، كلماتٌ من نورٍ في ذهنّ الزائِرَ الأجنبي لها ولتهوى بهذا، قلوب الوافدين إلى المدينة، ويستعرض الباحث التأرييخي المصري إبراهيم عناني تأريخ بِناء القصور الملكية وحدائقِها التي تركها محمد علي باشا الكبير وخلفاؤه، مُتطرقاً إلى ميّزّاتّ وقيمةَ مجموعةٍ مِنها، أهمُها وأبرزُها، قصر إنطونيادس وحدائِقِه، وقصر رأس التين، وقصر الملك فاروق .
كان في ذهني أن اطلعَ على حدائق إنطونيادس وقصرهِ، وهكذا أستقليتُ الأوتوبيس الأحمر ذات الدورين (الطابقين بالعراقي) السياحي المكشوف، لتحقيق ما بذهني، وأطلعَ على هذا المعلم الآثاري والتأريخي، جلستُ في الطابق الثاني للأوتوبيس وصدفةً كان جلوسي بجانب أحد مرشدي السياحة المرافق لكروبٍ سياحي من أهالي الإسكندرية يقصدُ زيارة حدائق وقصر إنطونيادس، وبعد أن رحبتُ به، طلبتُ منه أن يزودني بمعلوماتٍ موجزةٍ عن هذا المعلم فقالَ :
حدائق وقصر إنطونيادس يرجعّ تأريخ إنشاؤهما إلى عهد البطالمة عام 300 قبل الميلاد، فهي أقدم الحدائق والقصور التي أنشأها الإنسان على مستوى العالم، ولا تزال قائمةً إلى الوقت الحالي، وتُمثِل عُنصُرَ جذبٍ للسائحين الأجانب ولإهالي الإسكندرية، إذ المُتعةَ والترفيه بين حدائقِها الخلابة وزهورِها النادرة، وكانت تقع قديماً ضِمنَ ضاحيةً تسمى (أيلز وليس) الشهيرة، وكلمة (أيلز وليس)، تعني باليونانية جنات النعيم، والتي كان يؤمُها أهل الإسكندرية للمُتعة والترفيه، وعاصرت هذه أحداثاً تأريخية مهمة لملوك وقادة البطالمة، وأتى عهدٌ قُسِمتّ إلى قطاعات يملكُها قياصرةَ العالم لجمالِها الفريدّ والآسرّ، ومِنهُم قيصر النمسا، وقيصر روسيا، وفي القرن التاسع عشر الميلادي، كما يقول مُحدثي المندوب : كانت الحدائقَ مُلكاً لأحد أثرياء الأغريق يُسمى (باستريه)، ولذلك كانت تُعرفّ إلى حدٍ قريب بأسم حدائق باستريه، حتى تملّكها محمد علي باشا الكبير في عام 1820 ميلادي، وأنتقلت مُلكية القصر والحدائق إلى أحد الأثرياء وهو البارون اليوناني جون إنطونيادس عام 1860ميلادي، والذي سُميتّ الحدائق بإسمهِ، وقد ظل جون إنطونيادس بالقصر حتى توفيَّ في عام 1895 ميلادي، وآلتّ الحدائق والقصر بالميراث لإبنهِ انطوني، الذي نفّذَ وصيةَ والدهِ بإهداء القصر والحدائق لبلدية الإسكندرية عام 1918 ميلادي، وعندما وقعتّ المعاهدة البريطانية المصرية عام 1936 ميلادي بين الحكومة المصرية برئاسة حزب الوفد والحكومة البريطانية للإنسحاب من مصر إلى منطقة القناة، تم غرسُ شجرةً بمدخلَ القصر تخليداً لهذه المناسبة، وأقامَت البلدية قصراً في هذه المنطقة وتحديداً في عام 1860 ميلادي، وأوضحَ مرشد الكروب السياحي إن الخديوي إسماعيل طلب من الفنان الفرنسي بول (ريشارد) على جعلِ هذه الحدائقَ على غرار قصر فرَساي في العاصمة الفرنسية باريس، التي أقام بها الخديوي أثناء زيارته لفرنسا، ووسع الخديوي إسماعيل رُقعةَ الحدائقَ وعَمدَ إلى شراء الأجزاء التي يملُكُها قياصرةَ البطالمة من النمسا وروسيا، وكانت مساحة الحدائق أنذاك نحو خمسين فداناً، ثم بعد التوسعات وصلتّ المساحة إلى محل نادي سموحة حالياً، وأُضيفَ إلى الحدائق في وقتِها عدداً كبيراً من الأشجار والنباتات النادرة، كما عُرِفَ الخديوي حِينَها بولعهِ بصيد الطيور في هذه الحدائق، وأدخل أشجاراً ونباتات مُميّزة وممراتٍ مائيةٍ ذات مناظِرَ رائعة، وهناك في القصر والحدائق ملاهيَ وآماكِنَ مُخصصة لألعاب الأطفال، وركوب الدراجات الهوائية، وساحاتٍ للعب كُرة القدم، ويبلغ سعر تذكرة الدخول إلى الحدائق 15 جُنيهاً بَعدَ تطويرها، كما يستطيع الزائر أدخال مركبتهِ الخاصة إلى الحدائق والقصر لقاءَ 25 جُنيهاً .
حديقة الورود
وبعدَ أن وصلنا إلى حدائق وقصر إنطونيادس قدمتُ شُكري إلى زميلي مرشد الكروب، وترجلتُ من الأوتوبيس ودخلتُ نحوَ الحديقة والقصر، فإذا أمام أنظاري، مساحةً كبيرةً من بقعةِ أرضٍ، غناءَ تفترشُها جنةً ربانيةً خضراءَ مُزينةً بالحرائش والأشجار، والنباتات الوفيرة والنادرة، والزهور والورود بألوان حلوة وزاهية، مكونةً رسومات لوحاتٍ ربانيةٍ، حلوة جميلة من صنع الخالق الله عز وجل، وشاهدتُ داخل الحدائق مدخلٍ لحديقةٍ خاصةٍ للورود تحتوي على الأزهار والنباتات النادرة والفريدة من نوعِها، وهي حديقةً مُمتِعةً، زاهيةَ الألوانِ، رائعةَ الجمالِ رائحتُها الطيبة واللطيفة تفوح مع نُسيمات الهواء العليل، وتضُم الحديقة، عدداً من التماثيل لِأساطيرَ وشخصيات رومانية معاصرة، كما تحتوي على كافيهات تُقدم مشروبات ساخنة وباردة مع سندويجات مختلفة، وأكشاك فيها ما لذَ وطابَ من المأكولات، وجُلَ أسعارُها مُعتدِلة، وتضمُ الحديقة كذلكَ جلسات رومانسية، وآماكنَ خاصة للجلوس والراحة والهدوء، وتستمتعُ فيها أطيب الأوقات، وتشهدُ حديقة الورود إقبالاً وأزدحاماً كبيراً منقطع النظير خلال أيام الجُمُعَة والعُطل الرسمية، إذ تستقبل عدداً كبيراً من العوائل وبصُحبةِ أطفالِهم، وتراهُم يفترشونَ في هذه الحديقة الغناء .
استضافات القصر
لقد أستضافَ قصرَ إنطونيادس، كما روى لي زميل الدراسة، وصديق العمر منذ أكثر من نصف قرن المؤرخ التأريخي العراقي الأستاذ الدكتور ظاهر صكر الحسناوي، ملوكاً أثناءَ إقامتِهم في الإسكندرية مِنهُم، ملوك اليونان وبلجيكيا وفرنسا و إيطاليا وأسبانيا وألبانيا، كما أقامَ في القصر لفترةٍ الملك زوغ الأول ملك البانيا وزوجتهِ الملكة جير الدين، بعد خروجهم من بلدِهم البانيا، عقِبَ أجتياح مملكة إيطاليا الفاشية مملكة البانيا في فترة حُكم موسوليني، كما أقامت إبنة الملك فؤاد الأول الأميرة فوزية إمبراطورة ايران، وزوجُها الإمبراطور محمد رضا بهلوي شاه ايران السابق في القصر، في الشهور الأولى لزواجهِما، في حين شَهِدَ القصر كذلك الإجتماع التحضيري لإنشاء جامعة الدول العربية عام 1948 ميلادي .
وفي ضوءِ ما تقدم أقولّ :
إن أهل الإسكندرية هُم ملوك الشهامة والجدعنة والكرم والجود، والإسكندرية لها طعمٌ خاصٌ، وترابها زعفرانٌ وهوؤها الجميل العذِبّ يشفي العليلّ، والمشي على شواطِئِها تزيدُكَ ســـــــــعادةً وطاقةً ايجابيةً، إذاً إنها الحُبَ والعِشقَ والروعةَ، حقاً إنها كذَلِكَ جنةَ الخالِقَ الله على الأرضِ .