من كلفة السلطة إلى كلفة التنمية
لماذا يجب أن تبدأ الإصلاحات من القمة ؟
أسامة أبو شعير
من السهل أن نلقي اللوم على ضعف المدارس أو تدني الخدمات الصحية أو تعثّر مشاريع البنية التحتية، لكن الأصعب أن نسأل: كيف تُدار الموازنات العامة للدولة؟ وأين تُوجَّه الكتلة الأكبر من النفقات؟
حتى حزيران 2025، بلغت مصروفات الرئاسات الثلاث والبرلمان والجهات العليا مجتمعةً ما يقارب 4.9 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل 9.3 بالمئة من إجمالي الإنفاق العام البالغ أكثر من 52 تريليون دينار في نصف عام فقط. هذه النسبة وحدها تكفي لإطلاق نقاش واسع: هل كلفة إدارة السلطة متوازنة مع كلفة بناء المجتمع؟
مفارقة الأرقام
في تقرير الحسابات، يظهر أن مجلس الوزراء وحده أنفق أكثر من 4.3 تريليون دينار، أي ما يمثل نحو 88 بالمئة من مجمل نفقات الرئاسات والبرلمان. في المقابل، لم تتجاوز موازنة وزارة الصحة 3.7 تريليون دينار، بينما حصلت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي على 1.5 تريليون دينار فقط.
وإذا قارنا هذه الأرقام بما صُرف على الاستثمار المنتج في كل قطاعات الدولة، نجد أن الإنفاق الاستثماري الكلي لم يتجاوز 3.94 تريليون دينار خلال النصف الأول من 2025. أي أن ما يُنفق على إدارة السلطة يفوق ما يُوجَّه إلى بناء المدارس والمستشفيات والمصانع والطرق مجتمعة.
هذه المفارقة تكشف الخلل بوضوح: الدولة تُنفق على “تكلفة الحكم” أكثر مما تُنفق على التعليم والصحة والاستثمار، وهي القطاعات التي يفترض أن تشكل العمود الفقري لأي مشروع تنموي جاد.
من الاقتصاد إلى التنمية
المشكلة لا تكمن فقط في حجم الإنفاق، بل في طبيعته. أكثر من 30 تريليون دينار صُرفت كرواتب وتعويضات خلال نصف عام، فيما تراجع الإنفاق الاستثماري المنتج إلى مستويات هامشية. بهذا الشكل، يتحول المال العام إلى أداة لإدامة جهاز إداري مترهل، بدلاً من أن يكون رافعة لمشاريع تنموية تولّد فرص عمل وتدعم النمو الاقتصادي.
من زاوية الاقتصاد الكلي، استمرار هذا النمط يعني هشاشة في مواجهة تقلبات أسعار النفط، وغياب استدامة مالية حقيقية. ومن زاوية التنمية، يعني أننا نؤجل استثمار أهم ثروة يملكها العراق: عقول أبنائه.
دروس من تجارب دولية
التجارب الدولية تعطي إشارات واضحة. ماليزيا مثلًا، بعد أزمتها الاقتصادية في التسعينيات، أعادت هيكلة إنفاقها العام ورفعت تدريجيًا مخصصات التعليم والبحث العلمي حتى وصلت إلى ما يفوق 6 بالمئة من الناتج المحلي، وهو ما جعلها خلال عقدين ضمن الدول الأكثر جذبًا للاستثمارات التقنية.
أما كوريا الجنوبية، فقد خفضت نفقات الجهاز البيروقراطي في الثمانينيات، وأعادت توجيه الموارد إلى الجامعات ومراكز الابتكار، لتصبح بعد سنوات من بين أكبر خمس دول في براءات الاختراع عالميًا. وفي رواندا، التي خرجت من حرب أهلية مدمرة، جرى تقليص إنفاق مؤسسات الحكم وتوجيهه مباشرة إلى الصحة والتعليم، فانعكس ذلك على ارتفاع متوسط العمر المتوقع وانخفاض الأمية إلى أقل من 30 بالمئة خلال عقد واحد فقط. هذه النماذج تؤكد أن الإصلاح المالي الحقيقي يبدأ من القمة، لكنه لا يتوقف عندها؛ بل يتحول إلى رافعة للتنمية حين يترجم في تحسين التعليم والصحة والبحث العلمي.
لماذا الصحة والتعليم والبحث العلمي؟
التركيز على هذه القطاعات ليس شعارًا إنشائيًا. فالتعليم هو الاستثمار الأذكى لأنه يضاعف الإنتاجية ويزيد قدرة الأفراد على المنافسة في سوق عمل عالمي سريع التغير. والصحة ليست مجرد خدمة اجتماعية بل شرط لاستدامة قوة العمل وحماية رأس المال البشري من الهدر. أما البحث العلمي، فهو ما يربط التعليم بالاقتصاد عبر تحويل المعرفة إلى ابتكار، والابتكار إلى قيمة مضافة.
كل دينار يُنفق في هذه المجالات يحقق عائدًا اقتصاديًا مضاعفًا: فحسب تقارير البنك الدولي، الاستثمار في التعليم والصحة الأساسية يرفع الناتج المحلي على المدى الطويل بما لا يقل عن 2–3 بالمئة سنويًا. هذا يعني أن إعادة توجيه جزء من نفقات السلطة نحو هذه القطاعات ليست مجرد خطوة أخلاقية، بل خيار اقتصادي رشيد.
إصلاح يبدأ من الأعلى
الحل لا يكمن في فرض إجراءات تقشفية على المواطن أو تقليص الخدمات العامة، بل في إعادة هيكلة نفقات القمة. المطلوب أن تنخفض حصة الرئاسات والبرلمان تدريجيًا من 9.3 بالمئة إلى أقل من 7.5بالمئة خلال عامين، وأن يُعاد توجيه الوفورات إلى قطاعات التعليم والصحة والبحث العلمي. ذلك يتطلب مراجعة دقيقة للموازنات قبل إقرارها، وضبط الامتيازات المرتبطة بالسفر والضيافة والمركبات، وتوحيد أنظمة الرواتب عبر منصات إلكترونية تمنع الازدواج والوظائف الوهمية، إضافة إلى نشر العقود والتخصيصات بشفافية أمام الرأي العام. لكن الأهم من الأرقام هو الرسالة السياسية والاجتماعية: أن الدولة تبدأ الإصلاح من نفسها قبل أن تطلبه من الآخرين، وأنها تقدّم القدوة في ترشيد النفقات.
خاتمة: الاستثمار في الإنسان
الموازنة ليست مجرد أرقام في جداول، بل انعكاس لأولويات دولة. إذا استمرت كلفة السلطة في منافسة كلفة التنمية، فلن نتقدم خطوة. أما إذا تحولت مؤسسات القمة إلى نموذج في الكفاءة والشفافية، فإن الإصلاح سيتحوّل من شعار إلى واقع.
إنها ليست دعوة إلى تقشف مؤسسي، بل إلى عدالة وكفاءة في إدارة المال العام. فالتنمية تبدأ من القمة، والتعليم هو استثمارها الأذكى، والبحث العلمي هو محركها، والصحة هي ضمان استدامتها. والاقتصاد لا يستقيم إلا إذا وُضع في خدمة الإنسان، لا العكس.
خبير اقتصادي ومستشار دولي في التعليم والتنمية