الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في رثاء أنكيدو.. ( من لوح طيني مفقود من ملحمة جلجامش)


في رثاء أنكيدو.. ( من لوح طيني مفقود من ملحمة جلجامش)

وجيه عباس

 

جلجامش لم يصدق موت انكيدو، الحي يصاب بالمفاجأة حين يموت أحد أفراد عائلته، القائد الجبان يتحمل فناء شعبه بالكامل قبل أن يرضى القائد أن يُصاب بجرح في اظفره!!، الموت لايصفع القادة "راشدياً" على وجوههم أو "جلّاقاً" على مؤخراتهم النووية الا حين يأخذ الموت عزيزاً على قلوبهم... القادة والسادة والطغاة والظالمون يؤمنون بالمثل القائل (إصــواب البغيرك شــدخ!!)... الموت ضروري للايمان بالحياة...

جلجامش أصيب بانفصام الشخصية، أصبحت لديه شخصيتان، جلجامش العظيم... وجلجامش الفطير، كان أول شخصية أوروكية تثور على نفسها... من جلجامش ابتدأت مسيرة الأمــراض النفسية... جلجامش هو فايروس الحضارة الذي أصاب الشعب بالعدوى...كل فرد من شعب أوروك هو قائد بالفطرة، هو القاتل والضحية، والقاضي والجلاد.. بنفس العظام إلا.... أن لديه جلود الجميع!!، هو الثائر والخانع والشريف والحرامي والهادي والضال والمضل بنفس اللحظة.. الآلهة ابتليت به... وهو ابتلي بها.. جلجامش الأمير يقف أمام وجهه الفطير في المرآة... الاثنان يجترّان الحياة في أوروك والشعب العظيم ليس بيده أي شيء للتغيير غير أن يلعب بقلاقيله!!...

جلجامش الامير يقف خارج المرآة وهو يرتدي الملابس الملوكية ويضع التاج فوق هامته، ولم ينس أن يضع مسدساً في جانبه الأيمن ومسدسا في الجانب الأيسر.. بينما جلجامش الفطير في داخل المرآة يلبس دشداشة شاكر ويضع شطفة فوق راسه، يخاطب جلجامش الأمير جلجامش الفطير:

-الشعب عليه أن يعرف أنه كان على حافة الانهيار لولا وجودي على قمة السلطة، حظهم الحسن أنني كنت أقودهم، على الجميع أن يشكرونني..من الطفل الصغير الى الشيخ الكبير..وجودي ضروري للحياة في أوروك، أنا الثالث بعد الهواء والماء..انا الملك.. جلجامش الفطير يقول له بلغته الحالمة:

-ليس هناك شجرة بانتظاري...أنا الظل الذي يبحث عن جسد..أنا الدمعة التي تبحث عن نبع عينها في الوجود، أنا بقية الطين في هذا الجسد الظالم...المُلْك ياجلجامش أن تكون أنت مملوكا لغيرك، لا أن تكون ملكا على غيرك..وجودك ليس في غياب غيرك، بل غيابك في وجوده...ان تكون ظلاً لجسدك خير من أن تكون جسداً لظلك!..

- ماهذه الفلسفة الفارغة في الوقت الاضافي للشوط الثاني في الحياة؟ الجميع يريد تحقيق هدف وأنت تتفلسف على خط المرمى وبين قدميك الكرة؟ هل تريدني أن أغني لك (يعجبني اشوفك لاعب اسمك يملي الملاعب...تهجم نوبه وترجع نوبه واعي وفكرك يم الطوبه... العب يحبيبي)..

- ياجلجامش...الحياة ملعب لتفوز على الشعب، لك أن تكون لاعبا ً او متفرجاً، ليس بإمكان الجميع ان يكون لاعبا ومتفرجا في نفس

الوقت، الحكمة لاتأتيك على الدوام، انتهز فرصة وجود الحكمة حتى لاتصنع انقلابا عسكريا على نفسك..الفجيعة الكبرى التي لم تكتشفها أنت أو ربما اكتشفتها ولم تهتم بها، إن الشعب يعيش على ساحل الحياة بينما أنت تغوص في داخل البحر، تستهويك فكرة الفارس كما تستهوي الشعوب فكرة القائد والفارس..برغم إنكم لا فرسان ولا قادة واكبر خوات كحبة...كل شعب يجلد ذاته هو نفسه من يصنع فكرة المنقذ ليخلص نفسه من وهم القيادة، الشعب تبع لقائده، الشعب هو من يرشح القائد ليقوده ثم ينقلب عليه فيقتله ويسحله...القائد والشعب لايستطيعان تقبل الواقع، فيقوم الاثنان بصنع الوهم ليكون الأول ملكا والآخر عبدا، انتهت فكرة وجود البطل والقائد حين قام مواطن اوروكي اسمه اطويرش بتسقيطكم داخل أنفسكم، وتبعه الشعب بشتمكم وتسقيطكم في داخله... الشعب لايملك ان ينتقد نفسه، بل يشتمكم ويسحب الثقة عنكم من أجل أن يعيد بعض ثقته القلقة بنفسه... ثم يرشح آخرين ليسقطهم بنفس الطريقة ونفس خطة اللعب.. 3-4-3... الشعب ينفخ الطغاة مثل بالون ممتليء بغاز التفاهة... حتى إذا صعد إلى الأعالي... يمد نفس الشعب أدعيتهم الشبيهة برؤوس الدبابيس ليثقبوا البالون... فيهوى إلى الارض... ثم يعمد نفس الشعب الذي نفخه إلى سحله على الارض وهم يطلقون عليه صفة الشهيد الأب القائد!!..

- إذن نحن نستحق أن نقود هذه الشعوب فاقدة الذاكرة...وهم يستحقون ان يقادوا من قبلنا..نحن الذين نصنع هالة حضورنا في غيابهم... يريدون أن تكون اوروك منزوعة السلاح... ونحن نريدها أن تكون منزوعة اللباس!!....

- مات أخوك انكيدو... موته مفتتح حقيقي لموتك أيها الملك.. لم تستطع ان تمنحه الخلود ولن تستطيع منح نفسك هذا الخلود الصوري...انت ستموت لاحقا... الذي يقول لك أن الخلود ببقاء أعمالك الكاملة على رصيف شارع المتنبي فانه يضحك عليك..أي حيوات تصطف مثل شواهد القبور في مقبرة شارع المتنبي؟ أنت قضيت عشرين سنة في الحكم طاغيا ومغتصبا...فهل تريد من الشعب ان يشتري أعمالك الكاملة بسعر وجبة عشاء لعائلة كاملة؟ هل تريد من الشعب أن يلتهم اعمالك بدلا من رغيف خبز بامكانه اسكات صوت معداتهم الثورية؟ يخرج جلجامش من سيناريو الحوار بينه وبين جلجامش الفطير، يرسل في طلب نقابة النحاتين، وقال لهم أصنعوا تمثالا لصديقي انكيدو...من هناك..ابتدأت مسيرة التماثيل من جلجامش وحتى آخر نحات لوجوه الحكام في أوروك، ونقل التلفزيون الوطني خطابه المباشر بعد أن وضع مجسّما لصديقه انكيدو أمامه قرب المنصة، وكان يحمل مسدسين وكلاشنكوف نصف اخمص روسي:

[ اسمعوني أيها الفنانين واصغوا لي، من أجل انكيدو، خِلي وصاحبي، أبكي وأنوح نواح الثكلى، أنه الفأس التي في جنبي وقوة ساعدي، والخنجر الذي في حزامي والمجن الذي يدرأ عني، وفرحتي وبهجتي وكسوة عيدي، لقد ظهر شيطان رجيم وسرقه مني، يا خِلي وأخي الاصغر، لقد طاردت حمار الوحش في التلال، اقتنصت النمور في الصحارى، أنكيدو! يا صاحبي، وأخي الاصغر الذي اقتنص حمار الوحش في النجاد والنمر في الصحاري، تغلبنا معا على الصعاب وارتقينا أعالي الجبال، وأمسكنا بالثور السماوي ونحرناه، قهرنا خمبابا الساكن في غابة الأرز،) ينهض جلجامش ويتوجه لأنكيدو(: أي سِنةٍ من النوم هذه التي غلبتك وتمكنت منك؟ طواك ظلام الليل فلا تسمعني؟ ولكن أنكيدو لم يرفع عينه...فجس قلبه فلم ينبض..وعند ذاك ازال برقع صديقه كالعروس، وأخذ يزأر حوله كالاسد، وكاللبؤة التي اختطف منها أشبالها، وصار يروح ويجيء أمام المجسّم وهو ينظر إليه وينتف شعره ويرميه على الارض، مزق ثيابه الجميلة ورماها كأنها أشياء نجسة... رمى صليتين بالجو... وافرغ مسدسه البراونينغ أمامه.... (النحاتون انطوهه اللهيب... واحد... واحد... فلت من الاجتماع مع القائد.. هيه هيونطة؟... الواحد فلت بجلده... ياقائد... ياانكيدو...

ياقلبالوغ...)..

لما عاد جلجامش الى رشده، وجد جثتين لنحاتين...فأمر برفعهما من القاعة مع التأكيد على قطع مشهد الرمي في المؤتمر الصحفي...أعاد طلب وجود النحاتين وصاح بهم: أيها الصفّار والصائغ والجوهري ونحات الاحجار الكريمة اصنعوا لي تمثالا لخلي... تم نحت تمثالا لصديقه، جاعلا صدره من اللازورد وجسمه من الذهب، ونصب منضدة من الخشب القوي، وإناء من اللازورد مملوءا بالزبد، وقرب ذلك إلى "شمش" وشرع يندب صديقه ويرثيه. الموت نصف استراحة بين حياتك والعبور الى الغابة، لن يمنحك الموت فرصة لتنظيف اسنانك أو كوي ثيابك، لن يسمح لك الموت بأن تضع عطرا على شاربيك كما تعودت، انت رجل ممتليء بالعطر منذ اول رشة "انتريج" وحتى اخر قطرة "عود"، حقيبتك التي اعددتها للسفر الى هناك... بحاجة لتخفيف حملك، لاينبغي لك ان تحمل اكثر من ثلاثين كغم، واذا صادف ان حملت اكثر من الوزن المسموح به لك، فسوف يجبرك الموت على دفع مبلغ إضافي، الموت لايسمح لك بأن تحمل محفظة للنقود خشية أن يتم اتهام الملائكة بالفساد الاداري، الموت هيئة نزاهة لاتخضع لحزب يكرز بالانتخابات.  أيها المسافر الى هناك... وحدك ستعبر النهر لتغرق في اليابسة.. انكيدو ياصديقي... وحدك من وقفت معي حين تبرأ الجميع مني، ووحدك من رفعت ساطورك لتدافع عني حين تركني الآخرون.. الآخرون الذين دافعت عنهم طيلة عمري تنازلوا عن شجاعتي لانهم هكذا... ماهرون فقط في التصفيق والهتافات لأي حامل سوط سوف يجلدهم به في النهاية، انت وحدك من كنت تحمل ضميرا لايليق الا بالآلهة.. وحدك من قلت للجميع: ان الصديق يجب ان يكون صادقا... لكنهم كذبوك لانهم هكذا!.. الموت يأخذ جسدك في مشحوف، بينما أظل هنا أرقب ابتعادك عن عيني، لكنني لم أقل لك أن روحك تختبيء بين ثيابي مثل غيمة عطر.... مثل طفل فاجأه المطر فدس أنفه في ثياب أبيه... وجودك يقلق غيابي عنك... ووحدك من يطرق باب القلب، النوافذ تمد أصابعها لتلم خطواتك على العتبات... من أين لي بهمس خطاك وأنت تعبر نافذتي مثل عصفور أعمى!..دقات قلبك تنقر في زجاج الذاكرة  لتوقظها مثل زخة مطر جنوبي هل قلت لك يا أنكيدو ان المطر اذا بلل التراب يعطره

برائحة الامهات... ياصديقي.. ادري بانك صغير لتتعرف على موت ابدي، للموت ظلال ليس بوسعك أيها المطفأ العينين أن تراها... الحياة التي قضيتها معي اشبه بخدمة إلزامية لجيش منكسر... والحياة رايتنا البيضاء التي نرفعها يوميا حين يهزمنا الموت... لا مفر لنا في الهروب من الحياة الا حين نتذوق طعم الفجيعة في كأس الثكل... الموت هو المثكل حين يعلن غيابك عني... وحين يسلبك مني... وانا وحيد وظلي يتبعني حين أبحث عنك في الكلمات... إيه انكيدو... لو اني لم اتعرف على روحك واكتفيت ان انظر اليك كما ينظر صياد الى فريسته التي ستودع أنفاسها وهي تنسل مثل خيط ترابي بين يديه... ساعة رمل ّ تقطر بالثواني من عمرين غريبين التقيا على فجيعة غياب أبدي.... يحدث أن تكون ترفا مثل وردة، وخشنا مثل فأس  ... وقاتلا مثل صدفة عمياء.. ايها القريب من جلدي.. كيف لي أن اتبرأ من أيامك التي صبغت وجهي بالحزن... وأصابعي بالحنين... عيوني تخلو من ملامح وجهك وأنا أتعثر بالوجوه ولا أجدك على مرمى شهقة.. أين مني كل هذا الجنون الذي يحيط بي؟ لماذا لا أستطيع رسم حضورك؟ والغيوم تبرز وجهك كلما نظرت الى السماء... أيها اليد التي لممت أصابعي فيها وأنا أدفع عنك حتى ظلال الخوف... كل الخوف الذي يسكننا هو سبيل للعثور على محطة ننزل فيها ونغيب في حضور الناس... الغياب أجمل حين يحضر الجميع المثقل بالفراغ... الموت والحياة ميزان ونحن نسكن في كفيه حتى لا نريق الماء بين أصابعنا... أية لغة يمكنني أن أجدها وأنا أبعثرك في خطواتي؟ أي حروف يمكنني بها أن أجمعك مثل ظل متوزع بين الجهات...الحزن بحاجة إلى خل مثلك لأبكي عليه... أي انكيدو... لماذا ابقيتني خلفك؟ الحياة فارغة لانها خلت منك... كنت لون حياتي وطعم وجودي وعطر خطاي... أنا أفتقد الجدار الذي كنت أسند إليه ظهري.. كنت عمود خيمتي وخبائي... وكنت عنوان مملكتي... القلب الذي خفق لك وحدك.. تعود على الصمت بعدك، الساعات يتيمات حين أغلقت عينيك على مشهد ملك لايملك ان ينقذك من براثن الموت... أيها الصياد الذي نازل الوحوش السماوية. كيف لموت أرضي أن يطعن روحك من دون أن يرسم رمحه على جسدك لوحته بالدم؟ الجروح في روحك أكثر من أن تعدها العيون.... أين أهرب من موتك الذي يحاصرني مثل غريب لايعرف في البلاد ركنا يأوي إليه... انا حزين لوجهك الذي لن أراه الا في حلم يتيم... وحزين لشعرك الذي ينسدل فوق كتفيك اللتين حملتاني في غربتي بين الآلهة والبشر.. حزين لعينيك اللتين تملاني بالبلاد الموغلة بالوحشة... حزين لاني لن اتعرف على مثلك في ما بعدك... وغريب انني تعرفت عليك لوقت أقصر من وجودنا على الارض... أيها التعرفني مثل روحي.. يا من أوجدتك الالهة لتكون عدواً  فأصبحت خلي وصديقي.. وجعلتني مثل

جسد يبحث عن ظله في التراب... كيف لك ان تتركني بين هذي الوجوه

التي أنكرتها منذ وجود لم اكن فيه سوى غياب كامل الدسم؟


مشاهدات 115
الكاتب وجيه عباس
أضيف 2025/08/24 - 3:15 PM
آخر تحديث 2025/08/25 - 9:35 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 277 الشهر 17783 الكلي 11412869
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/25 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير