بان.. دمٌ صار بياناً
ياس خضير البياتي
في العراق لا تُقتل الأرواح ببساطة، فكل رصاصة لا تُصيب جسدًا وحسب، بل تُطيح بما تبقّى من ملامح النقاء. لم تكن بان زياد طبيبةً عابرة، ولا امرأةً منسيّة على هامش الحياة، بل كانت أشبه بزهرة بيضاء خرجت من بين أنقاض الخراب، تسير بخطواتٍ تحمل الرحمة، وبابتسامة تشبه النور. كانت مشيها بين الناس أشبه ببراءةٍ تمشي على قدمين، فلما سقطت مغدورة، لم يسقط جسدها وحده؛ بل انكسرت مرآة وطنٍ بأسره، وتشظّى قلب أمة تتأرجح بين صمتها المرّ وخوفها الطويل.
إن اغتيالها لم يكن حادثة جنائية تُسجّل ضد مجهول، كما اعتدنا أن تُغلق الملفات بلا عدالة. لقد كان فعلاً سياسيًا وأخلاقيًا أسود، إعلانًا صارخًا بأن حياة العراقيين تُباع وتشترى كما تُباع العقود، وتُطوى كما تُطوى الأوراق على مكاتب المسؤولين. لم تكن الجريمة تستهدف إنسانًا وحسب، بل كانت رسالةً فجّة للعراقيين: «لا أحد محمي، ولا أحد في منجاة.» وهذه الرسالة أخطر من الرصاصة نفسها، لأنها تعني أن الدولة غابت عن دورها، وأن الضمير العام قد ذُبح كما ذُبحت بان.
لم يكن دمها مجرد نقطة حمراء على أرض باهتة، بل تحوّل إلى نهر يفيض في الشوارع والبيوت والذاكرة. صار صرخةً تُسمع في ساعات الليل والنهار، تلاحق القتلة في أسرّتهم، وتحوّل قصورهم المذهبة إلى مقابر من رعب وصدى. هو دم لا ينام، دم يظل يذكّرنا بأن القاتل قد لا يُعاقَب اليوم، لكنه يعيش مطاردًا بلعنة لا تزول.
لم يكن قتلها جريمة صامتة؛ بل لعنة من لعنات التاريخ القديم، تلك التي تلتصق بجباه الطغاة وتفضحهم حيثما ذهبوا. ومن يتأمل سطور التاريخ، يدرك أن دم الأبرياء هو المسمار الذي يدقّ العروش مهما ارتفعت. فالتاريخ، على قسوته، لا يرحم قاتلاً ولا يتستّر على جريمة مكتوبة بدم امرأة خرجت لتزرع حياة.
لم تُغتل بان كامرأة فقط، بل كرمز للمرأة العراقية كلّها؛ تلك التي قدّمتها الحروب والسلطات قرابين منذ عقود لسلطةٍ شهوانية مجنونة: مرةً تحت لحية الدين، ومرةً تحت عباءة المنصب، ومرةً تحت سطوة المال. وبينما يُترك القاتل طليقًا تحرسه جيوش الخوف والصمت، تبقى الضحية شاهدة على عارٍ جماعي لا يغسله الزمن.
إن اغتيالها كان امتحانًا لوطنٍ بأسره، مرآة قاسية وُضعت أمام العراقيين: إمّا أن ينهضوا لدمائهم، أو أن يواصلوا الانحدار في طابور موتٍ طويل لا نهاية له. فقصة بان ليست مجرد غصّة في الحلق، بل إنذارٌ أخير يهمس في أذن الجميع: الصمت خيانة ثانية، والتغاضي شراكة في الجريمة.
لا تسمحوا أن يتحوّل دمها إلى خبرٍ عابر في نشرةٍ مسائية، أو إلى ملف يُغلق بمزوّر. بان ليست رقمًا في إحصاءات الموت اليومية… إنها قضية وطن، وكرامة أمة. لقد أُسكت صوتها بجريمة حيوانية بشعة ، لكنه عاد أعمق وأعلى، فهي اليوم صوت العراق نفسه، وجهه المصلوب بين الموت والولادة، ذاكرة لا تُمحى، وصرخة لا تُدفن.
لقد أُجهز عليها غدرًا، لكن القتلة لم يدركوا أن الدم يُنبت حياة، وأن الصمت قد ينكسر فجأةً ليصبح هديرًا. كل دماء الأبرياء التي أُريقت تنتظر لحظة انبثاقها الكبرى، واللعنة التي بدأت مع دم بان قد لا تهدأ حتى تهدم أصنامهم وأسوارهم. فلتكن بان جرس الإنذار الأخير: إمّا وطنٌ بكرامة وحرية، وإمّا فناء نكتبه نحن بأيدينا.
بان لم تعد جسدًا مسجّى في قبرٍ بارد، بل تحوّلت إلى ملحمة، إلى قصيدة من دم وصدق. تذكّرنا أن نهايات الأوطان يصنعها الأشرار، لكن بدايات الشعوب تُكتب دائمًا بدماء المظلومين. وإذا كان الأشرار قد خطّوا موتها، فإن العراقيين الآن مدعوون لأن يكتبوا حياتهم بأحرفٍ من مقاومةٍ ورفضٍ وثورة.إنها لم تكن جريمة فقط… بل كانت بداية البيان. وبان هي البيان.