حين صار النور تقويماً، وصار الحب ميقاتاً"
نوري جاسم
حين تنكّرت العصور لأنفاسها النورانية، وذابت الذاكرة في أرقام جافة لا روح فيها، أشرقت في الأفق فكرة قدسية، جاءت من مقام الحب، ومحراب العرفان، وضياء الولاية، فأطلت على الوجود بوحي صادق، وميلاد جديد للتاريخ.
كان ذلك يوم 2 أيار من عام 570 ميلادية، يوم ولد النور، واكتملت به البركة، واختار الله الزمان ليكون رسولًا، إذ حمل ميلاد سيدنا محمدٍ صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في قلبه، فصار ذاك اليوم أصل الزمان، ومبتدأ الرحمة، ومفتتح البركات, ومن هذا المعين النوراني، نبع التقويم المحمدي، بولادة جديدة للزمن, هو تقويم ليس فيه سوى إشراقات نورانية لمعاني روحية، ويحمل نَفَسَ المحبة، وزاد العاشقين، ومواعيد السالكين، انه تقويم تتنفسه الأرواح كما تتنفس الحياة، لأن كل شهرٍ فيه هو باب إلى مقام، وكل اسم هو ذكرى ترنو إليها القلوب قبل العيون، وللتاريخ كلمة وللمواقف بصمة حيث أعلن حضرة السيد الشيخ السلطان الخليفة محمد المحمد الكسنزان الحسيني (1938 م _ 2020م ) قدّس الله سرّه العزيز رئيس الطريقة العلية القادرية الكسنزانية في العالم عن فكرة التقويم المحمدي، والذي يمثل مظهر إيماني واحتفائي دائم بالولادة المحمدية المجيدة، وعملاً يقدِّس ويعظِّم ويبجِّل شخص الرسول الكريم صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وكان ذلك في ليلة المولد النبوي الشريف لعام 1466 ميلادي محمدي (12/3/1412 هجري، 19/9/1991 ميلادي). وقد أطلق السيد الشيخ محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدّس الله سرّه العزيز تسمية ( عام النور ) على عام ولادة النبي الكريم صلى الله تعالى عليه وسلّم، والذي هو أول أعوام التقويم المحمدي، وقد اشرف السيد الشيخ شمس الدين محمد نهرو الكسنزان الحسيني (1969م ) قدس الله سره العزيز على تنفيذ هذا المشروع العظيم، وبعد جهد جهيد لعدد من الأساتذة والباحثين من مريدي وأبناء الطريقة الكسنزانية ، وبالاستعانة بقسم الدراسات الفلكية في جامعة بغداد أنجز هذا التقويم المبارك بصورته الرائعة البهية وبوقت قياسي، وقد اثبتت الدراسات والحسابات الفلكية التي اجريت، صحة رأي حضرة السلطان الخليفه محمد المحمد الكسنزان الحسيني قدس سره العزيز ان يوم 12 ربيع الاول يوم ولادة الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم كان يوم الجمعة الموافق 2 من شهر أيار من العام 570 ميلادي ، على عكس المرويات المتداولة التي تذكر ان يوم الولادة المباركة هو يوم الاثنين، وهناك مرويات موثقة تثبت أن الولادة الشريفة كانت يوم الجمعة ، والذي اتضح صدق هذا الرأي بعد عمل الدراسات والحسابات الفلكية، والتقويم المحمدي هو تقويم قمري يؤرِّخ الأحداث نسبة إلى ولادة الرسول سيدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم، ولمثل هذا التقويم الجليل فوائد كبيرة للدارسين والباحثين في مجال التأريخ الإسلامي، لأنه يؤرخ الأحداث نسبة إلى بدايتها الحقيقية، وهو الولادة المحمدية المجيدة، وبذلك فإن التقويم المحمدي يمثِّل حلاً مثالياً وعملياً للتخلص من المشكلة التي تشكل واحدة من عقبات دراسة تاريخ الإسلام المُبكِّر، والتقويم المحمدي هو تقويم قمري يبدأ كل شهر من شهوره بأول رؤية لهلال ذلك الشهر، وتتكون السنة المحمدية من اثني عشر شهر، ولما كان هذا التقويم يحتفل بالولادة المحمدية المجيدة، فان شهر الولادة الشريفة هو أول شهر من شهوره، كما أن سنة ولادة الرسول الكريم صلّى الله تعالى عليه وسلّم هي أول سنة فيه، ولما كان التقويم المحمدي تقويماً إسلامياً فهو مكمل للتقويم الهجري، حيث يهدف إلى التذكير برمز الإسلام الأول الرسول الأعظم سيدنا محمد صلّى الله تعالى عليه وسلّم، وهذا التقويم المحمدي الكريم هو معنوي روحي نوراني مبارك من باب التعظيم لشخص الحبيب المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم، وقد تم إختيار أسماء ألأشهر في التقويم المحمدي بحيث تكون مرتبطة بشخصيات ورموز وأحداث إسلامية عظيمة ذات أبعاد ودلالات تاريخية وقعت في هذا الشهر الذي يحمل ذلك الاسم، وفيما يلي أسماء الأشهر في التقويم المُحمدي ودلالاتها وأسباب اختيارها :
النور : أول شهوره، فيه بزغ فجر محمدي لا يغيب، وفيه بدأت الرحلة، حيث جاء النور من حضرة القدس إلى دنيا التراب، لينير الوجود بكامله، وفي كل عام يعود هذا الشهر ليشعل القلوب شوقًا، ويهمس في أسماع العارفين: هنا ابتدأ الطريق.
ثم يأتي القدس، لا كمدينة فحسب، بل كأيقونة للمعراج، فيها أُسري بالحبيب، ومنها عرج إلى سدرة المنتهى، فصارت بوابة بين الأرض والسماء، وكل من مرّ بها، شمّ عبير التسليم، وذاق مقام القرب.
ويليه الكرّار، شهر عليّ، البطل النوراني، حامل الراية، وفتّاح حصون الظلمة، الذي كَرّ فكان نصراً، وفَرَّت دونه القلوب الظالمة، فصار شهراً للثبات والمروءة.
ثم الزهراء، شهر النقاء الطاهر، شهر من وُصفت بأنها "بضعة مني"، فهي التي ورثت النور، واحتضنت سرّ الرسالة في حضن الحنان، ومشت بين الناس زهرةً لا تذبل، عفةً لا تموت.
في حضرة الإسراء، نرتحل مع المحبوب ليلاً، بين المحراب والسماء، نقرأ في آياته معنى الانتقال من عالم إلى عالم، ونتعلم أن للسالكين دائمًا معراجهم، إذا صدقت قلوبهم.
ثم القادسية، فيها تهتز الرمال تحت خيول الإيمان، حيث سقط الطغيان وتحررت الروح، فصار هذا الشهر ذاكرةً للمجاهدين الصادقين، وروحًا تُضيء ميادين الحرية بالنور لا بالسيف.
وفي رمضان، يُصام القلب عن الغفلة، وتُتلى المزامير من كتاب الله، وتتزاحم الرحمات على موائد العاشقين، إنه شهر القرآن، لا يُسمى بغير اسمه، لأن اسمه من الله، وجلاله من السماء.
ثم يأتي النصر، شهراً يحمل صدى الخندق، ومعركة الأحزاب، حيث انتصر الإيمان حين تكسرت سيوف اليأس، وانتصر الحب حين ثبّت الأحباب أقدامهم على تراب الخوف فأنبت وردًا من يقين.
ويليه البيعة، يوم بايع المؤمنون تحت ظل الشجرة، بيعةً ما خالطها نفاق، وما دنّسها شك، فخلّدها الرحمن في كتابه، وصارت عنوانًا للوفاء والعهد الصادق.
في الحج، تتطهر الأرض من رجس التفرقة، وتلبس الأكفان البيضاء، وترتفع الأيدي بلا لون أو لغة، بل بنداء واحد: لبيك اللهم لبيك، فيه تلتقي الأرواح بماضيها، وتستعد للآتي، وتعيد التوحيد إلى صيغته الأولى.
ثم الهجرة، حيث بدأ التأسيس الحقيقي للأمة، حين ارتحل الحبيب لا هربًا بل لبناء دولة قلوب، دولة حب، دولة صدق، فيها الأنصار مناصرين، والمهاجرون مصاحبين، وكان فيها محمدٌ قائدًا لا كغيره من القادة.
وأخيرًا، الباز، شهر الغوث الأعظم، سيدي عبد القادر الجيلاني قدس سره، الذي أرسى أركان الطريق، وأحيا الفناء بالمحبة، وبسط اليد للعالمين، فصارت القادرية قبلة للسالكين، ورايةً يتفيأ بظلها أكثر من مليار قلب عارف، مشغوف، تائب، عابد.
إن التقويم المحمدي ليس ورقة على الحائط، بل مرآة في القلب، يُبصر فيها السالك مقامه، ويعرف منها ميقاته، وهو نهرٌ من النور، يجري في شعاب الزمان، ويعطر الدقائق بذكر الحبيب، حيث فيه الكرم، والجود، والعطف الأبوي، فيه العشق، والإيمان، والحنان، فيه ما يجعل الزمن يُسَبِّح، واللحظة تُوَحِّد، والذاكرة تُزهِر، هو ليس للتأريخ، بل للتذكير، وليس للعد، بل للوصال، وليس لتبديل الأرقام، بل لإحياء الروح، ومن هنا، صار الزمان محمّديًا، وصار الحبُ ميقاتًا، وصار العارفون في حضرتهم يرددون ( اللهم صلّ على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا )