على هامش الحضيض... حين يتقوّأ السفهُ على القامات
حامد الضبياني
في الوقت الذي تتباهى فيه الأمم بمثقفيها كما تتباهى بالعَلم المرفرف في سمائها، وتفاخر بفنانيها كما تفاخر بآثارها الضاربة في جذور التاريخ، وتسمو بكتّابها كما تسمو بلغتها، نشهد في عالمنا العربي ـ والعراقي خاصة ـ موجة نقيضة، كأنها نقيعة من مستنقع عفن، صعدت فجأة لتتسيّد المشهد الثقافي لا بجمال الكلمة، ولا بعمق الفكرة، بل بسوء الطوية، وفجاجة اللسان، ووقاحة الحضور. أصبحنا أمام طبقة هجينة، هجينة لا بالنَّسب الفكري، ولا بالمحتد الإبداعي، بل بالذوق، والوعي، والنية. كائنات لفظتها الأوساط الثقافية كما تلفظ المعدة طعاماً فاسداً، لكنها عادت تتقيّأه المنصّات المدفوعة الثمن، ومواقع التواصل التي لا تفرز الغث من السمين.
هؤلاء ليسوا طلاب أدب، ولا عشاق فن، بل متسلقو خواء، يضع أحدهم كتابًا أمامه كما تضع الدمى قنينة عطر فارغة، يتعطرون بعناوين لم يكتبوها، ويعبّرون عن أفكار لم يفهموها، ثم يتبجّحون أمام الشاشات، ويصطنعون هيئات المفكرين بوجوه لم تخرج من رحم التجربة، ولا كابدت في ليل الكتابة سوى أرقِ الجهل وتشنج الغيرة.
من أين أتى هؤلاء؟ كيف صار من يتعثر بلغته، ويتأتئ في فكره، ويتلعثم في حضرته اسم السياب أو نازك، يعتلي منابر التحليل، ويقدّم نفسه قامة، وهو لا يقيم وزنًا لا لِحرف ولا لحرفائه؟ بل الأدهى أنه حين يرى علَمًا حقيقياً، أديبًا كرّس حياته للنص، أو فنانًا عاشر اللوعة والمحراب، يخرج كمن فُتح عليه باب من الغلّ والحقد، فيسِبّ، ويشتم، ويطعن لا بالنقد، بل بنعل اللغة التي لم يلبسها يومًا، وبخنجر اللفظ السقيم. لو مدّ أحدهم يده، لما بلغ كعب حذاء من يهاجمه، ولو وقف فوق جبل الغرور، لما بلغ ظلّ من شتمه.
نحن أمام طفحٍ لا يمكن تسميته إلا بامتداد للسفه، وأعراضٍ مرضية لسرطان ثقافي مستجد، يتمدد كالعفن في زوايا الهشاشة الفكرية. لا يقرؤون إلّا ليقولوا قرأنا، ولا يكتبون إلّا ليرموا سهم الحسد في قلوب الطاهرين، ولا يصمتون لأن الصمت عندهم انكشاف لفراغ أرواحهم. صاروا يتطاولون على رموز ما كانوا ليبلغوا درجاً من مراقيهم حتى لو عاشوا أعمارهم على أعتاب المكتبات.
هذا الزمن الذي يُؤخذ فيه المجد بالقذف، ويُصنع فيه الاسم على حساب القامات، لا بد أن يُعرّى. لا بد أن يُشار له بالبنان، لا بالسباب، بل بالبيان، لا بالشتيمة بل بالسخرية الأبلغ من كل شتيمة. لا يشرفني أن أسمّيهم، لأنهم لا يستحقون اسماً. أُفضّل أن أدعوهم بما هم عليه: أصداء خواء، وسُخام رغبةٍ شهوانية للظهور، كأنهم أقوام من زمن البغاء، لا يعرفون من التناسل إلا تكرار أنفسهم في نسخة مشوهة، ولا من الحياة إلا استمناء شهرةٍ عاقر.
هذه الظاهرة التي راجت على أكتاف بعض المأجورين في القنوات الصفراء، أو بمال فاسد يشتري الوقت والوجه والكرامة، يجب أن تُجابه لا بالردّ، بل بالتجاهل الماكر، بالإبداع الصادق، وبالإعلاء من شأن الحرف لا بتدنيسه. فلنتركهم يصرخون في الزوايا، لنتركهم يتخبطون في طينهم، فالشمس لا تتأثر بنباح الغربان، والقصائد لا تموت برصاص السفهاء.
وحده الأدب الحقيقي يبقى، وحده الفن النبيل يصمد، وحدهم الكبار لا يُدافع عنهم، لأنهم جبل، والجبل لا يردّ على ريح.