قناع الإعتدال
الحركات المتطرفة تعيد رسم خارطة النفوذ
أركان الحمداني
في زمنٍ تشتد فيه الصراعات وتتداخل فيه الحسابات السياسية، تعود الحركات الإسلامية المتطرفة إلى المشهد، لكن بثوب جديد لا يكشف عن عُمق مكرها وخطورتها. لم تعد صرخة البنادق أو رايات السواد علامتها الوحيدة، بل باتت تُمارس فن التسلل الناعم إلى قاعات السلطة، متخفية خلف شعارات العدل والاعتدال. هي عودة مدروسة، تمزج بين الخديعة والتكتيك، تهدف إلى إعادة تشكيل المجتمعات والدول على أسس أيديولوجية ترفض التعدد وتستنكر الاختلاف، فتدفع المنطقة إلى دوامة من الصراع الخفي داخل المؤسسات نفسها.
في العراق، تنمو السلفية المدخلية في الظل، وتنساب بهدوء إلى جسد المؤسسات، تحت راية الطاعة والخضوع المطلق، متخذة الدولة أداة لا شريكًا، مناهضة لأي مشروع إصلاحي أو تعددي، حتى باتت منظومة متغلغلة لا تعرف إلا السكون والاستبداد. في اليمن، يعيد حزب الإصلاح الإخواني هندسة أدواره على وقع الحرب، متسلحًا بخطاب مدني خفي، يستثمر الانقسامات لزيادة نفوذه السياسي. وفي شمال سوريا، تتحول هيئة تحرير الشام من جماعة جهادية إلى سلطة تحكم الواقع، تحاول إضفاء الشرعية على وجودها السياسي، متلبسة ثوب الاعتدال، في حين لم يتغير جوهرها الفكرِي.
هذه الحركات لا تمثل صحوة روحية، بل مناورة بقاء تستهدف اختراق الدولة والمجتمع، واستبدال القتال بالسلاح الخفي، والمعركة المفتوحة بصراع داخل مراكز القرار. وفي مقابل هذه التيارات الساعية إلى التمكين السياسي، تنمو اليوم حركات دينية أخرى أقل شهرة، كالعَلّاهية أو بعض الفرق المهدوية، التي لا يبدو عليها الطموح السياسي المباشر ولا تسعى إلى اقتناص السلطة، لكنها تنطوي على خطورة من نوع آخر.
إذ تعتمد هذه الجماعات على سرديات غيبية ومفاهيم عقائدية مغلقة قد تُغذي الانعزال المجتمعي والتشظي الطائفي، وتشكّل أرضًا خصبة للتطرف غير المسلح، الذي قد يتحول لاحقًا إلى تهديد فكري أو أداة بيد أطراف إقليمية.
ولهذا، فإن المعالجات المحلية والدولية لا تكفي أن تكون مجرد إدانات أو بيانات سياسية، بل تتطلب جهودًا استخبارية ومخابراتية عالية الدقة والفعالية، تراقب أدق تحركات هذه التيارات، وتفكك شبكاتها، وتتابع مصادر تمويلها، وتضبط تجمعاتها وتجنيدها في المهد. فالمعركة اليوم ليست فقط على الأرض ولا في ساحات القتال، بل في غرف المخابرات، وقاعات صنع القرار، وبين طيات التشريعات.
إن إهمال هذا الجانب يجعلنا نواجه غدًا واقعًا تُدار فيه دول من داخل أنفاق متشددة، ترتدي أقنعة الاعتدال، وتخفي تحتها نوايا الإقصاء والسيطرة. الحذر واليقظة والجهد الاستباقي، هي وحدها القادرة على كبح هذا المد المتجدد، وحماية حاضر ومستقبل الأمة من مخاطر تسللٍ لا يُرى إلا بعد أن يستفحل
محام واستاذ القانون في جامعة المستقبل