ايفين.. حفرٌ في الذاكرة
كتاب الخوف المسكون بالجمال
رياض شابا
(وقف المحقق خلفي، وقال: انزع العصابة وانظر الى هذه الصورة.
رفعت رأسي ونظرت الى صورتي جالساً مع خطيبتي، وهي ترتدي فستاناً وردي اللون حاسرة الرأس. قال: اربط العصابة. ثم سأل: من هذه الفتاة؟
قلت: خطيبتي؟ قال: ايرانية؟
عشرون عاما ونيف مرَّت على تلك المصافحة. تعارفٌ سريعٌ في مبنى جريدة (الصباح) بالوزيرية صيف 2003، ثم عشاء مبكر جمعنا مع عدد من الضيوف الذين التقيهم للمرة الأولى، بحضور بعض من زملائي المحررين في بيت الصديق الراحل اسماعيل زاير رئيس التحرير، حيث تناولنا وجبتنا بشيء من السرعة، لأن علينا العودة للعمل وانجاز عدد الجريدة لليوم التالي. ومنذ ذلك المساء، لم ألتقِ الرجل ذا الشخصية الرصينة والابتسامة الدائمة والإطراقة الهادئة، ثانيةً. وعلمتُ فيما بعد أنّهُ منغمس مع معنيّين آخرين في إدارة شؤون الكيان الذي حلَّ محل وزارة الإعلام الملغاة والمتمثل بـ (شبكة الإعلام العراقي) التي تصدر (الصباح) عنها، ونسَّبَني المرحوم زاير لتمثيل الجريدة في اجتماعات مع ممثليْن اثنين من الشبكة، تُعقد داخل مقر الجريدة نفسها، ولفترة لم تدم طويلاً، ولستُ بصدد الخوض في تفاصيلها اليوم بالتأكيد، بقدر ما أود الحديث عن جورج منصور الذي وصلني بالأمس كتابه (ايفين.. حفرٌ في الذاكرة). سقتُ هذه المقدمة، كي أشرح الانطباع الذي ارتسم في مخيّلتي عن عراقي سمعتُ وقرأتُ عنه الكثير، فتجدني منقسماً بين الكلام عنه أو عن كتابه الذي لم تُتَحْ لي فرصة قراءته بعد. وفي لحظة كهذه لا أرى مجالاً للفصل بين الاثنين. وهكذا اطلعتُ على العديد من العروض والتعليقات التي زادتني شوقاً للإبحار بين صفحاته التي تقرب من الاربعمائة، لتأخذني السطور في عوالم أصابتني بالدهشة، لكثرة المفاجآت والوقائع التي احتواها العمل المكتوب بأسلوب شائقٍ وبلغة أدبية جميلة، رشيقة وسهلة، ويدخل الكثير منها في خانة (اللا معقول)، لأنه من الصعوبة بمكان تصديقها!
وما إنْ فتحتُ المظروف البلاستيكي الأبيض، حتى رحتُ ومن الوهلة الأولى أقلِّب بلهفة الأوراق وأشاهد الصور تباعاً. أقرأ بضع صفحات هنا، وغيرها هناك. فاتعرّف على الولادة المشوبة بالأسى والنشأة الصعبة للشاب المسيحي الذي عمل والده لأكثر من ثلاثين عاماً في شركة نفط العراق IPC في كركوك التي رأى وإخوته النور فيها للمرة الأولى. وصفحات أخرى عن المناضل الشيوعي الذي عانى الكثير من نتائج البدايات المثقلة بهموم عاشها الوطن في ظروف أدمتها الخدوش ثم الجراح الكبيرة التي أدت الى انهيار (الجبهة الوطنية والقومية التقدمية). لم أقرأ الكتاب كله، لكنني وجدت نفسي متنقلاً بين جورج منصور الخريج الذي حصل على جواز سفره، بطريقة أشبه ما تكون بعملية الولادة القيصرية، ليطير على أجنحة الخوف للدراسة في موسكو التي تركها كي يلتحق بـ(الانصار)،
ايام مرعبة
تلبية لنداء قضية نذر نفسه وحياته من أجلها، وبين جورج الذي غادر حلم (المهندس العاشق للفلسفة)، ليقع في قبضة الإيرانيين في اثناء حرب الثماني سنوات، داخل ايران نفسها، ويعيش أياماً مرعبة في غياهب سجن (إيفين) الرهيب.. سيء الصيت.
لم أقرأ الكتاب، لكنني تابعتُ خلال وقت قصير وبأنفاس لاهثة أحيانا، بعض المواقف، وعشت لحظات الهلع التي مر بها جورج منصور الذي اضطر لأن يحمل اسم (يوخنا) لزمن ما، اثناء (اقامته) (الغريبة) في طهران! بجانب ما ناله من عذاب في أكثر من سجن. وهي لحظات ضيقت عليه الخناق حتى عندما أقدم على الزواج من فتاته الايرانية المسيحية (جرمين). وكأنني في خضم دوامة، أو فيلم يحبس الأنفاس. وان أحداثه بتفاصيلها وتواتر احداثها، والمعاني الكبيرة الزاخرة فيها، تصلح بحق لأن تصبح عملاً سينمائياً كبيراً، ينتصر لقضية الانسان في كل مكان.
لست على عجلة من أمري، رغم أنني أتلهّف لمعرفة كل ما ورد في سيرة مثيرة، تجسد عذابات البشرية المضطهدة في حقب زمنية قاتمة من تاريخ البلاد، حتى خُيِّل اليَّ أنّ ما كتبه المؤلف هو حفرٌ في جراح الذاكرة، وليس في الذاكرة عينها. أجَّلتُ الشروع في القراءة لحين، كي أنصرف لكتابة سطوري هذه، تعبيراً عن مشاعر الامتنان والوفاء للأخ جورج منصور الذي شملني بكرم إهدائي كتابَه هذا. وهو يقول بخطه الجميل كما ترون: (فيه “أي الكتاب”شيء من الأمل، ذلك الذي جعلني أن أتشبث بالحياة.).
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر، وتشبثاً مني بالحياة التي أنشدها أنا أيضاً، فإنني لن أكشف سراً، اذا ما قلت إنه كان مقدراً لي أنْ أعمل مع (أبي ريناد ورامي) لو أنني اخترتُ البقاء في العراق، بدلاً من الهجرة الى كندا عبر سوريا، فقد تطوع الصديق والزميل الراحل فائق بطي لمفاتحته بشأن عمل لي في كردستان، بعد أن صار جورج منصور ذا شأن فيها إعلامياً، وعلى مستويات أخرى فيما بعد، من بينها استيزاره في حكومة الاقليم.
الخيار الامر
لكنني في النهاية، وجدتُ نفسي ذاهباً الى ما هو أصعب وأبعد، وأبلغتُ طيب الذكر (ابا رافد) خلال زيارته لي في أسابيعي الأخيرة بجريدة (الصباح الجديد) في أيار 2006، متأبطاً مجموعة من كتبه التي حملت توقيعه، بانني حسمت أمري مع (الخيار الأمَرّ)، وبأنني تخليت عن فكرة العمل في كردستان، وأنني نويت على الهجرة، خصوصاً بعد المضايقات التي اكتست بالطائفية البغيضة، التي تعرَّضتْ لها آلاف مؤلفة من أبناء وطن لم (يُكتب) له أن يستريح، وكانت محاولة خطف ابني (نصري) التي ختمت بنجاته وسلب سيارته، ناقوس الخطر الذي حثّني على الإسراع في رحيلٍ، انتهى بنا (جورج منصور وأنا) في بلد واحد، تفصل بيننا ساعات سبع طيراناً.