الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هنا كانت الموصل

بواسطة azzaman

هاشتاك الناس

هنا كانت الموصل

ياس خضير البياتي  

 

لا تسألوني عن طائفتي أو قوميتي أو عشيرتي… فعندما أكتب عن الموصل، أكتب عن العراق كلِّه. أكتب عن مدينة كان يُفترض أن تكون أمَّ الربيعين، لا أم الركامين! مدينة، ظننا أنها ستنهض من تحت الأنقاض، لكنها وجدت نفسها... معروضة للبيع في مزاد علني

ذهبتُ إلى الجانب الأيمن… فلم أجد مدينة، بل وجدتُ حقولًا من الركام، جدرانًا متهاوية، بيوتًا بلا أسقف، نوافذ تحدق في الفراغ كعيون أطفأت الحياة. بين الأزقة، كانت الأشجار اليابسة واقفة كأنها شواهد قبور، والغبار يغطي كل شيء… كأن الموصل تنفست رمادها ثم صمتت إلى الأبد، ثم قررت أن تبقى معلّقة بين ذكرى وزمن لم يأتِ بعد.

لا تسألني عن إعادة الإعمار... هناك مشاريعُ جديدةٌ تُعلن في الموصل، نعم، لكن لمن؟ لأصحاب الشركات التابعة، للواجهات الحزبية، وللمستثمرين البارزين، وللفاسدين؛ بينما تبقى البيوت القديمة، والأزقة الضيقة، والحارات التراثية معلقةً بين مطرقة الإهمال وسندان الطمع!.

مَن قال إن التحرير قد انتهى؟ والحقيقة هي أن الاحتلال مستمر؛ ولكن ببدلات رسمية وربطات عنق بدلاً من الزيِّ العسكري. الاحتلال اليوم هو نوعٌ من «الاحتلال الاستثماري»، حيث يتم الاستحواذ بشكلٍ علني تارة، وسري تارة أخرى؛ إذ يُشترى الخراب لتُبنى فوقه أبراج المصالح؛ لا منازل الناس

نعم يا سادة،… كل شيء أصبح موزعًا على هيئة حصص، وكأننا أمام وليمة شهية يتقاسمها الجائعون؛ بينما أهل الموصل الحقيقيون، يقفون على الأطراف، ينظرون بحسرة: هل سيكون لنا نصيبٌ حتى من الفُتات؟  كل شيء معروض للبيع… حتى التراث، وحتى الأحلام، وحتى حجارة الأزقة. لا تتحدثوا إليَّ عن المشاريع الجديدة، قبل أن تُعيدوا للجانب الأيمن حقوقَه، وتوفروا لأهله بيوتهم، وللموصل روحَها. لا ترفعوا لافتات «الإعمار» وأنتم تقضمون الأرض شبراً فشبراً. فأهل الموصل يعرفون أن الجانب الأيمن ليس مجرد أرضٍ ميتة تُباع في مزاد؛ بل هو: روح مدينة، وجذور تاريخ... وذاكرة وطن

دعونا لا نتجاهل الحقيقة الكبرى: الفساد موجودٌ ويتجول في أروقة المؤسسات، كضيف دائم، يتودد، ويبتسم، ويأخذ حصته؛ ثم يغادر. الأحزاب حاضرة في المشهد، فلكل حزب «نصيبه»، ولكل منهم «منطقته»، ولكل راية حقُّها في رفع شعارها فوق أنقاض المدينة. حتى الأرض، لم تعد ملكًا عامًا؛ بل أصبحت خريطة نفوذ موزعة بعناية بين هذا الحزب وذاك الفصيل، وبين هذا المقاول وذاك الحاج

ونعترف أن يد المحافظ السابق، نجم الجبوري، وذراع المحافظ الجديد، عبد القادر الدخيل، ليستا مطلقتين في كل الأمور. هناك مَن يتجاوزهم، ويتحكم فيهم؛ من خلفهم ومن أمامهم، يبارك أحيانًا ويعترض أحيانًا أخرى، وينهض بالمشاريع المتوقفة في منتصف الطريق، حتى أصبح حلم بناء مدرسة يحتاج إلى مفاوضات، تشبه تلك المتعلقة بالملف النووي!   رغم هذا المشهد المعقّد، يمضي المحافظ الحالي على خيطٍ مشدود، يتأرجح بين صراعات الأحزاب وضغوط مطالب الناس. كل خطوة يحسبها بعناية، كمن يمشي على حافة هاوية؛ يخشى السقوط في فخ الاتهامات، أو الوقوع في شَرَك إرضاء الجميع… فلا أرض ترضي الجميع، ولا حبال السياسة تُمسك بسهولة. إنها مهمة (شبه مستحيلة)؛ إلا أنها -على الأقل-تُبقي باب الأمل مواربًا، حتى وإن تسلل منه الغبار أكثرَ من الضوء! هو يمتلك موهبة تجاوز الألغام السياسية بحكمة هادئة، وسط صراعات الأحزاب التي تتصارع على الموارد والثروات، والسير بخيوطٍ مشدودة فوق فجوةٍ واسعة، ويسعى لتوقيع عقدٍ هنا، وتَفادي الانفجارات هناك

ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أنه تحمّل عبئًا أثقل من الجبال: مدينة من الأنقاض، ومن الذكريات، ومن الآمال المكسورة. يحاول البناء، والترميم، والإعادة؛ على الرغم من الأدوات المحدودة، والميزانية المشروطة، والضغوط المستمرة.

الجمهور في الموصل راضٍ... نعم، راضٍ بما يشاهد، وصامتٌ عما لا يشاهد، مبتسمٌ للصورة، ومتفائل بلا سبب. لقد اعتادوا على عدم توقُّع شيء... بل أصبحت المحاولة في نظرهم إنجازًا، وكل تأجيل يحمل أملًا مؤجلًا، وكل حجر أساس يُذكرهم بأن الموصل لا تزال تحاول العودة.  ومع كل ذلك، يبقى الأمل معلقًا على سواعد شباب الموصل، وعلى جامعاتها التي لم تخن الذاكرة… هناك، تبرز جامعة النور كمنارة مضيئة، تصون تراث المدينة بمحبة لا تخون، وإصرار لا يلين. من خلال مشاريعها التراثية والأثرية، و(بيتها الثقافي) الذي تحوّل إلى فسحة من الضوء، يجمع شتات الحكايات الضائعة. يُعيد للبيوت العتيقة ألوانها، ولأزقة الموصل أصواتها الخافتة، ويرسم ملامحها القديمة بالحبر والعلم. ليقول لنا — بكل يقين — إن المدن لا تُبنى بالحجارة وحدها، بل بالذاكرة، بالهوية، وبوعي لا ينسى!

ومع كلٍّ، يظل سؤالٌ يحترق كالجمر في القلب: متى ستعيدون للموصل القديمة ما فقدته من أصالة؟ متى ستستعيد مدينة تراثَها وجمالَها التاريخي؟ متى ستتحول هذه الأنقاض إلى ورشة وطنية لإحياء ذاكرتها؟ أم أنكم لا تروْن في المدينة القديمة سوى «عقار استثماري» و»أرض شاغرة» جاهزة للمزايدات؟ 

أيها السادة، لا تخبروني عن مشاريعكم الجديدة قبل أن تُعيدوا الحياة إلى المدينة القديمة. لا تقوموا بتسوية الشوارع وتتركوا الأزقة مُهملة. لا ترفعوا شعارات الإعمار وأنتم تحفرون القبور. لا تُزينوا الجدران بينما تهدمون التاريخ. أعلم أن هناك من يريد اقتلاع ذاكرة المدينة… ليرسم مكانها ذاكرة مصطنعة، بلا هوية، بلا أهل، بلا جذور، كأنهم يكتبون تاريخًا بلا ماضٍ، ووطنًا بلا روح.

الموصل. ليست جدرانًا مهدّمة، ولا حجارةً صامتة؛ الموصل ذاكرة تمشي على قدمين، حكاية محفورة في وجدان العراق، قلبٌ نابض رغم كل الكوارث والنكسات، هي الذاكرة، والحكاية، وخلاصة العراق.

الموصل لا تحتاج ترميمًا، وإنما تحتاج روحًا تُعيد نبضها، وتُستعيد ذاكرتها، ويُكرَّم تاريخها، وتعود لها الحياة. مدينة لا تنحني، لا تُشترى، لا تُباع… مدينة ولدت لتبقى.

 

yaaas@hotmail.com


مشاهدات 29
الكاتب ياس خضير البياتي  
أضيف 2025/05/04 - 4:15 PM
آخر تحديث 2025/05/05 - 1:56 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 164 الشهر 4957 الكلي 10998961
الوقت الآن
الإثنين 2025/5/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير