رئيسة برلمان النرويج .. تعساً لك
احسان باشي العتابي
بالفعل انها مفارقة:رئيسة برلمان تسقطها شقة لا تتجاوز مساحتها خمسين مترا! قضية ضئيلة في ظاهرها، لكنها في النرويج كافية لنسف مستقبل سياسي كامل… فقط لان النزاهة هناك لا تجزا، ولان المال العام لا يلمس الا بحق واضح كالشمس. ايفا كريستين هانسن لم تسرق، لم ترتش، لم تتربح، ولم تغتصب الشقة من احد. كل ما في الامر انها سكنت في شقة مخصصة للنواب الذين يبعد محل سكنهم اكثر من 40 كيلومترا عن البرلمان، ثم تبين انها لا تستحقها.
هذه المرأة لم تدعي انها من اتباع محمد النبي، او آل بيته، او صحابته المبشرين وغير المبشرين، لا تستشهد بنهج امهات المومنين، وفاطمة بنت محمد النبي، ولا تفتخر بانها تسير على خطى زينب الحوراء، لا ترفع شعارات “القدوة” ولا تغلف سياساتها بعبارات الطهر والولاية والولاء،بل حتى لم تدعي العصمة الاخلاقية. ومع ذلك، استقالت لاجل خمسين مترا لا تستحقها بحكم القانون الذي تومن به،وتدافع عنه حتى وان كان خلاف مصلحتها الشخصية. لا… انها فقط انسانة بسيطة، قد تكون تتبع عقيدة دينية معينة، وقد لا تكون…لكن ما يلفت النظر هو ان المنظومة الانسانية والاخلاقية التي حكمت تصرفها،كانت ارفع بكثير من كل ادعاءات الطهر، التي يتشدق بها بعض مسؤولي البلاد العربية والاسلامية، والعراق محور الطرح هذا من بينها.
بينما هنا… في بلاد “القيم الدينية والاخلاقية»المرفوعة على اليافطات،وفي ارض تتباهى بانها ارض الانبياء والاوصياء والحضارات،تهدر المليارات، تدمر المؤسسات،وتعلق الجرائم على شماعة “سوء الفهم”، و”الالتباس الاداري”،ويخرج الفاسد من المحكمة كما يدخل…بل مكرما ايضا كما لمسنا هذا في الكثير!
ما الذي حدث؟
شعار العدالة
كيف صار من لا يزعم الطهر… اطهر؟
ومن لا يرفع شعار العدالة… اعدل؟
ومن لا يلوح براية الدين…اصدق واشرف واجرا على الاعتراف بالخطأ؟
هكذا… ببساطة… قامت القيامة.
سقطت واحدة من اعلى السلطات التشريعية في بلد يتعامل مع الاخلاق السياسية كتعامل المؤمن مع مقدساته: لا هامش فيها للتاويل. اما في العالم العربي والاسلامي عامة والعراق خاصة كما اشرت سلفا _اقولها بحسرة عراقية اثقل من جبال الهم—حيث المخالفات الكبرى لا تزلزل كرسيا ولا تهز ضميرا، بل قد تتحول بقدرة قادر الى مكافأة للمتورط داخل دهاليز بيروقراطية لا تحسن الا التبرير.
لماذا يسقط المسؤول في النرويج بسبب شقة؟
لان المجتمع هناك يقوم على ركائز اساسية متينة لا تهتز:
الاولى:المسؤول خادم للجمهور لا مالكا لرقابهم.
الثانية:المال العام مقدس، والتجاوز عليه—مهما صغر—خيانة للثقة.
الثالثة:الشفافية سيدة الموقف.
الرابعة:الاعلام يمثل سلطة الشعب ،وليس تابعا ذليلا فضلا عن انه لسانا ناطقا للمسوول ايا كان.
لذلك يكفي ان تكشف تفاصيل شائبة صغيرة، ليتحرك المجتمع وتتحرك الصحافة، وتنتهي القصة باستقالة فورية لا نقاش فيها.
اما هنا… في الارض التي كتبت اولى القوانين للبشرية قبل ان يعرف العالم معنى الدولة…
ثقافة الاستقالة
فالسمات العامة تختلف جذريا:
اولا: غياب ثقافة الاستقالة
المسؤول يظل متشبثا بالمنصب حتى لو احترق البلد من تحته.
ثانيا: ضبابية الشفافية
الارقام تخفى، التقارير تحجب، والفساد يذوب في المجهول.
ثالثا: ضعف الاعلام
اما مقيد، او محاصر، او مخترق… فكيف يمارس دوره كرقابة شعبية؟
ورابعا—وهو الادهى:
تداخل السلطة بالبيروقراطية يجعل المحاسبة بطيئة، ان لم تكن معدومة اساسا. والنتيجة؟ ان المواطن—واعني المواطن الحر—يشاهد عالمين لا يلتقيان:
دول تسقط حكوماتها بخطأ صغير، ودول لا يتغير فيها شيء حتى لو تراكمت الاخطاء الى حد الفضيحة. المقارنة ليست للادانة… بل لفضح الفرق في الفلسفة السياسية ذاتها: في النرويج: الاستقالة شرف… واحترام للثقة التي منحها الشعب.
في العراق:
الاستقالة اعتراف بالهزيمة… فيفضل المسؤول البقاء ولو على خراب البلاد. هل يمكن ان يتغير الحال؟ نعم… ولكن التغيير لا يبدا بنصوص القوانين وحدها، بل بثقافة محاسبة حقيقية، وبان يصبح تداول المعلومات حقا لا منة، وبان يفهم المواطن ان المال العام ليس رقما في موازنة، بل حقا مقدسا… وانه هو—لا غيره—مصدر السلطات، لا مصفقا تافها لهذا المسؤول او ذاك.
عندها فقط… يبدا وطن يشبه احلام الناس، لا كوابيس حكامه.
عندها فقط… سنرى مسؤولا يستحي.اما اليوم… فالاستحياء عملة نادرة، لا تطبع في مطابع الشرق.