سلامة الكلمة وحجة السكوت
رعد البيدر
أصدَقُ ما قيلَ في الحِكمةِ الإنسانيّةِ يكمُنُ في إتقانِ فَنِّ التوقّف عن الكلام، والاكتفاء بالقليل منه اثناء التحدث، واختيارِ النافع من الكلامِ وليس البذيء. أصابَ كَبِدَ الحقيقةِ الكاتب الأميركيَّ «إرنست هيمنغواي» حين قال إنَّ عامينِ من الزمن يكفيانِ المرءَ ليتعلَّمَ كيف يتحدّث، لكنَّهُ يحتاجُ نصفَ قرنٍ ليتعلَّمَ كيف يَصمُت! هذهِ المفارقةُ بين العامينِ والخمسين سنة ليستْ مجرّدَ لعبةِ أرقامٍ أو قياسٍ للزمن، بل هي شهادةٌ على الثمنِ الباهظِ الذي يدفعُه المرءُ كي يرتقي بلسانُه من مجرّد أداةٍ للإفصاح إلى مصدرٍ للوقارِ والمكانة المرموقة. المسألةُ ليستْ في إتقانِ البيان، بل في امتلاكِ البصيرةِ التي تُميّزُ بين فُرصةِ الكلامِ وضرورةِ الصمت. يَغرقُ عصرناِ الذي نعيشه في ضوضاءِ الثرثرةِ العابرةِ والكلامِ الفائض، ولا يتَبَيّن معدنُ المتحدّثِ الحقيقيِّ إلّا حين يتخلّى عن كثرة ما يتحدَث بهِ. الناسُ لا تَهبُ المرءَ تقديراً لائقاً لمجرّد أنّه يتكلّمُ طويلاً، بل يمنحونَه احترامهم عندما يوقنونَ أنّ كلَّ كلمةٍ يتحدث بها هي خُلاصةُ تصفيةٍ فكريّةٍ عميقةٍ وتأمّلٍ مُتأنٍّ. الشرفُ لا يُكتسَبُ إلّا عندما يتحوّلُ الصمتُ الطويلُ إلى حصيلةِ كلماتٍ مُنتقاةٍ بعناية، وحين يتجنب المتحدّثُ الانزلاقَ في متاهاتِ الجِدالِ السخيف، ويترفعُ عن تلويثِ لِسانِه بالخوضِ في التوافه. فالردُّ على كلِّ تافهٍ يعني منحه قيمةً مجانيّة، الساكت أحوجُ ما يكونُ إليها.
مسك اللسان
أقوى منازلِ القوّة ليستْ في الصوتِ العالي، بل في القدرةِ على مَسك اللسانِ لحظةَ احتدامِ الغضبِ أو الاضطراب. إنَّ الكفَّ عن الكلام هو ما يُحوّلُ الصمتَ إلى دِرعٍ أخلاقيٍّ لا يُخترق، وقوّةٍ عقليّةٍ راسخة. الناسُ يحترمون الذينَ يَحسبونَ للكلمةِ حسابَها، ولا يستخدمونَ ألسنتهم سُيوفاً يطعنونَ بها ظهورَ غيرهُم؛ فتُطعَنَ ظهورهم. وحين يفتحُ المتفكّرُ فمَه بعدَ زمنٍ من التروّي، لا يكونُ كلامُه مجرّدَ ردِّ فعلٍ انفعاليّ، بل يصبحُ بياناً مُركّزاً لهُ ثقلُهُ ومغزاه.
في المشهدِ السياسيِّ العراقيِّ المُشتعلِ حالياً، تشتدُّ الحاجةُ إلى مراعاة حِكمةُ الرزانة اللفظية، حيثُ تَضُجُّ الشاشاتُ ومنصّاتُ التواصلِ بالصراعاتِ التي تلتِ الانتخاباتِ، وبالخلافاتِ المُحتدِمة قبل أن تطأَ الأقدامُ قاعةَ البرلمان. في خِضمِّ هذهِ الفوضى، يصبحُ الصمتُ أشبهَ بـاستراتيجيّةٍ وطنيّةٍ للحياة، وتصبحُ الكلماتُ المطلوبةُ هي تلكَ التي تُطلَقُ كرصاصاتٍ مُوجَّهةٍ نحوَ أهدافِ البناءِ وتحسين مستوى خدمةِ الشعب، لا نحوَ التخوينِ وإشعالِ الخصوماتِ العَقيمة. مَن ينجحُ في العبورِ فوقَ هذا الضجيجِ ويتورّعُ عن حُمقِ الخلاف، هو مَن يكسبُ ثقةَ الناس، وهو الذي ينظرُ إليهِ العراقيون بعينِ الرزانة لا السخرية.
في المحصّلةِ النهائية، والقولُ الفصلُ الذي لا يُدرِكُهُ إلّا أصحابُ البصيرة: إنَّ نَيلَ احترامِ الآخرينَ يتطلّبُ من المتحدّثِ أن يستوعبَ كون القيمةَ الحقيقيّةَ للقولِ تُقاسُ بجودتِه لا بكثرتِه، وأنَّ عليهِ أن يُطهّرَ مَنطِقَهُ من كلِّ لَغوٍ عقيم. فليكنِ الأصلُ هو الصمتَ المُفضي إلى التفكير، وليكنِ الكلامُ هو الحالةَ الاستثنائيّةَ والضروريّةَ التي تخدمُ الحقيقةَ أو تناصرُ العدل. ليستِ العِبرةُ في أن يتعلّمَ المرءُ قواعدَ النُطق في عامين، بل في أن يُتقنَ فَنَّ الصمت ولو بعدَ خمسين عاماً، حتى إذا نَطَقَ كان لكلامِه وزنٌ لا يُستهانُ به.
أجاد الشاعرُ العربيُّ القائل:
ما أن نَدِمْتُ على سُكوتي مَرَّةً
ولَقَدْ نَدِمْتُ على الكَلامِ مِراراً