كلام أبيض
بلا حب .. الشمس لن تشرق أبداً
جليل وادي
يوم صمت أغلب رجال الدين عن تقاليد وأعراف بالية كالنهوة والثأر والفصلية التي نهشت في أرواح الناس قبل أجسادهم، انبرى المطرب الريفي عبادي العماري ليتصدى بأغانيه البسيطة لهذه الظواهر القاتلة، هل تذكرون أغنية ( فصلية ) التي انتشرت وبشكل واسع في مطلع السبعينيات من القرن الماضي عبر أشرطة الكاسيت المحدودة الانتشار قياسا بما نحن فيه الآن من قنوات الاتصال والتواصل ؟، ولم يأت انتشارها من فراغ، بل كانت هناك حاجة مجتمعية تمثلت في استعداد الناس لتقبل الفنون التي تواجه كل ما يبث الحزن في المجتمع، وما يشيع البهجة في النفوس، وأكاد أجزم ان هذه الأغنية أسهمت في تنوير الناس، وحثهم على نبذ الاستهانة بالمشاعر الانسانية، وان تأثيرها فاق ما قامت به برامجنا التعليمية آنذاك.
ويوم لم تكن كردستان كما هي عليه اليوم، من حيث سعة مساحة الحرية، وملاءمة الأماكن لأجواء الراحة والاسترخاء وتبديد الملل وكسر نمطية حياتنا، كانت البصرة هي الجاذبة للعراقيين دون غيرها من المدن، حيث مظاهر الفرح في كل مكان، فيعود منها الانسان الى سكنه مشبعا بنسائم شط العرب بأمواجه الرقيقة، وطيبة أهلها الحنونة، وكرمهم العصي على الوصف، وايقاعات الخشابة الصاخبة بأغانيهم التي تلامس شغاف القلب، فتحرك مشاعر الحب فيتراقص لها الجسد طربا.
وبعد أكثر من نصف قرن، توهمنا فيه اننا تقدمنا الى أمام لنبتكر أشكالا من الفرح مستديمة، تعوض العراقيين عما كابدوه من مآسٍ جيلا بعد آخر حتى كأننا معجونون بالحزن والبكاء الأزلي، يتظاهر المعممون ونفر من المتخلفين لقمع أية بادرة للفرح، ما هذا الذي تفعلون، ومن نصبكم أوصياء على الناس ؟، آه.. من فكرة الوصاية التي يتقمصها رجال الدين والسياسة وغيرهم من الذين يظنون انهم على صح وغيرهم على خطأ، دعوا الشباب يستمتعون بحياتهم، اما نحن كبار السن فما عاد في العمر بقية، لقد قضيناه من نفق مظلم الى آخر أشدة عتمة حتى بلغ بنا اليأس مبلغا.
ويوم استقبل الرئيس اللبناني جوزيف عون البابا ليو الرابع عشر في قصر بعبدا، أعجبني ما قاله الرئيس مخاطبا البابا : ( نستنشق الحرية، ونخترع الفرح، ونحترف المحبة )، وكان استهل عبارته هذه بالقول : ( لن نموت، ولن نرحل، ولن نيأس، ولن نستسلم )، ركزوا معي على قوله : ( نخترع الفرح )، بينما من بيدهم أمرنا يخترعون لنا الحزن في كل لحظة، وكأنهم لا يريدون لنا الحياة، ومن يخترع الفرح يؤمن بالحياة، ولابد أن يعيشها مبتهجا، وبالتأكيد سيجهد حثيثا من أجل تحقيق السلام، والبهجة والحرية والسلام متلازمات، لا وجود لواحدة منها دون الأخرى.
لا أدري لِمَ لا يخطر في بال جماعتنا ان الفنون متجذرة في الانسان العراقي بروحه وجسده، ولو كان الأمر غير ذلك لما ابتكر السومري قيثارته لترطيب مزاجه مذ كان يمتهن الصيد قبل آلاف السنين، ولذلك أقول جازما للذين يظنون فوزهم فوزا عظيما في معركتهم ضد الموسيقى والغناء والرقص: بأنهم سيندحرون اندحارا شنيعا، كما انهزم من قبلهم الذين حاربوا التلفزيون، ووصفوه بأنه رجس من عمل الشيطان، وسيريهم العراقيون (نجوم الظهر) كما يقولون في أمثالهم.
من حقهم أن يدعون للفضيلة، ولكن بالتي هي أحسن، ومن حقنا أن نستمتع بحريتنا التي حرمونا منها دهورا، فلا ابداع الا مع الحرية، ولن نحب الوطن او نشعر بالانتماء اليه، الا عندما نحصل على حقوقنا كاملة، وأولها الحق بالحرية، ولن يسود السلام اطلاقا، ولن يهدأ للإنسان بال الا مع الحب، ولا يعني كلامي دعوة للابتذال او الرذيلة، بل نحن مع فن ملتزم يعبر عن وجدان الأمة ومشاعرها، ومع ذاك الذي يملأ شوارعنا بالبهجة والحب، فالشمس لن تشرق أبدا على بلد بلا حب.
jwhj1963@yahoo.com