نسخة شخصية قٌبَيْل الصدور.. نسيم الكرخ ديوان جديد للقصاب
مجد حبيب
عندما قرأت ديوان «أغاني الصباح أغاني المساء» للأديب والشاعر (لطيف القصاب) قلتُ في نفسي: لقد سكب شاعرنا كلّ ما عنده ولم يبق لديه ما يقوله، وذاك بعد أن سافرتُ بين دفتي كتابه في رحلة شعرية زاخرة بالمعاني العميقة التي تنقش في النفس عميق الأثر، لكنني فوجئت وأنا أقرأ ديوانه الثاني « نسيم الكرخ» بأنّ هذا الشاعر ما هو إلا ينبوع فكر متجدد تنساب كلماته لترسم لنا في كلّ قصيدة أجمل ما يقال في الموضوع التي هي في صدده، وبطريقة سلسلة شفافة منحها الصدقَ رونق فتّان؛ فكلّ قصيدة يختزل فيها الشاعر قصّة لا، بل رواية يعيش معها القارئ كلّ مشاعر سامية ومن ثم تحلق به إلى عوالم أكثر سموًّا ونقاءً.
واقعية وخيال
نثرَ الشاعر لطيف القصاب قصائده في نسيج تتداخل فيها الواقعية والخيال بأسلوب محكم متضمنٍ صورًا مكثّفة وألفاظًا عذبة رائقة. أتقن الشاعر فيها الإبحار إلى أعماق المتلقي الواعي ليضعه تحت تأثير مشاعر متزاحمة فتراه يحس بأنه معنيّ بهموم الشاعر تارة، ومتحفزٌ ليشاركه وطأة تعبه تارة أخرى. يهمّ ليذرف الدمع في مطارح ويعود ليبتسم تأثرا وحنينا في مطارح أخرى.
في ديوان «أغاني الصباح أغاني المساء» وقوامها أربعون قصيدة تغلبُ عاطفة الحنين كلّ عاطفة سواها .
الشاعر القصاب – على سبيل المثال- يجرفنا بتياره لتتوحد أرواحنا مع ذكرى أمّه الراحلة التي لا يُمحى من ذاكرته فيضُ حنانها فيقول:
أمّي كانت عيناً من مطرْ
عيناً محا أجفانها السهرْ
حينما راحت أمّي إلى الله
ما توقفتْ ساعةُ الكونْ
ما تغيّر في الكون لونْ
كأن الكون فؤاده من حجرْ
أو كأنّه ما صدّق الخبرْ...
ويعود بنا شاعرنا إلى حضن بغداد الذي أبى أن يلوث نصاعته أي ظلام فجاءت صرخته مثل بركان خمد الحزن في قاعه دهورا، وكان لا بد له أن ينفجر:
بغداد ثوري فهذا الصمت فاحشة
لا الله يرضاه لا الإنسان لا القِرَدُ
بغدادُ عُذراً إذا ألفيتني صَلِفَاً
فالغيظُ يملئني يا أمُّ والكَمَدُ!
فما إن تنغمر النفس بثنايا تلك القصيدة حتى يتخيل لنا أننا نسمع صراخه وثورته التي يدافع فيها عن النقاء والصفاء.
وفي المجموعة الثانية « نسيم الكرخ» ، وقد تجاوزت عشرين قصيدة، توزعت أشكالها بين العمود الحديث والنثر بأنواعه ثمة قاسم مشترك يجمعها على منعرج واحد، فأكثر ما يلفت القارئ هو الصدق المنبعث من شفافية روح الشاعر ووجدانه؛ إذ طوّع ألفاظاً سهلة الفهم ، قريبة إلى النفس ولم يجعلنا ننشغل عن جمال معانيه بغموضٍ يدفعنا إلى البحث في معجم من تلكم المعاجم...
بنية جمالية
لقد أبدع الشاعر في رصف كلماته والتفنن في بنيتها الجمالية التي تنمّ عن مقدرة فائقة في شدّ القارئ ومصادرة مشاعره بالكامل، كما أنه أتقن فن التجديد في الصورة التي منحها ألقاً متفرداً يحمل في طياته روح الشاعر العامرة بالإنسانية فيخاطب النفس ( الكبيرة) بوصفها بحرا فيقول:
كن بحراً لا غريقْ
ابعد لتدنو
ابعد لتنجو
ليخبو الحريقْ
ادفن الزلزال تحت الطريقْ
أيها البحر الفضاء
لن يضرنّك داء
لن يضرنّك من بال وقاء...
أقول: لعلّ الكلمات الماضية تكون مفاتيح لكلمات آتية...
لقد أيقظنا الشاعر لطيف القصاب – حقًا- من سبات هانئ حين أولجنا داخل جمله الأنيقة...
وبعدُ فلست أرى أجمل من شعرٍ يجعل المتلقي في حالة نشوة فكرية لا ينتهي الانتشاء بها حتى بعد انتهائها...