الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
هسهسات الضوء في أنطولوجيا الثقافة العراقية


هسهسات الضوء في أنطولوجيا الثقافة العراقية

كتاب يوثّق الذاكرة ويستنطق أرواح الريادة

 

عصام البرّام

 

بين الضوء والذاكرة

في زمنٍ تتكاثر فيه العتمة ويغيب فيه التوثيق، يجيء كتاب (هسهسات الضوء في أنطولوجيا الثقافة العراقية)  للمفكر والأكاديمي الدكتور عبد الحسين شعبان ليضيء ذاكرة الوطن من خلال وجوهه التي صاغت الفكر والسياسة والأدب والفن في العراق منذ بدايات القرن العشرين.

ليس الكتاب فهرساً للأسماء ولا أرشيفاً جامداً، بل خريطة ضوءٍ حيّة تلتقط ملامح التحول في الوعي العراقي عبر سير رجاله ونسائه الذين جعلوا من الإبداع فعلاً وطنياً وموقفاً أخلاقياً.

ثقافة تتجاوز التخصص

يقدّم الكتاب بانوراما فكرية وثقافية تمتد من بواكير الدولة العراقية الحديثة إلى يومنا هذا، مستعرضاً شخصياتٍ طبعت الحياة العامة بطابعها الخاص. فـأحمد الحبوبي، الوزير الأسبق، الذي حمل فكر الأمة وهمّ الوطن، يمنح المؤلف للحديث عنه،  الوزير القومي العروبي الأسبق وأحد أبرز الشخصيات التي جمعت بين الفكر والسياسة والأخلاق العامة. لا يقدّمه الدكتور شعبان بوصفه موظف دولة أو وزير مرحلة، بل باعتباره نموذجاً للمثقف الوطني الذي آمن بأن السياسة لا قيمة لها إن لم تتكئ على رؤية فكرية وإنسانية. يستعرض الكتاب مسيرة الحبوبي في خضمّ التحولات السياسية العاصفة التي عاشها العراق في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حيث ظل ثابتاً على مبادئه القومية والعروبية من دون أن يقع في فخّ التعصّب أو الإقصاء، خاصة عندما يتناول كتاب الحبوبي في (ليلة الهرير) وما تعرض له في هذه الليلة الليلاء. كان الحبوبي، كما يصفه المؤلف، مثقفاً يعرف معنى الدولة الحديثة، ووطنيّاً يدرك أن الحرية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية. يمتاز عرضه له بالحيوية والدفء الإنساني، إذ يستعيد الحبوبي كصوتٍ اتّسم بالاتزان والنزاهة، وكسياسيّ رأى في خدمة الناس واجباً أخلاقياً لا وسيلة للسلطة. وفي قراءته العميقة، يُبرز المؤلف كيف مثّل الحبوبي جزءاً من جيلٍ عراقيّ ذهبيّ آمن بالنهضة القومية والوحدة العربية، لكنه ظل مخلصاً للعراق أولاً وأخيراً، واضعاً مصلحة الوطن فوق كل اعتبار. فيما يطلّ الكاتب على أحمد الصافي النجفي من منفاه كشاعرٍ وسياسيّ جعل من الكلمة سلاحاً ضد القهر والانغلاق، مستعيداً روح النجف بوصفها مدينة الفكر والتمرّد. هذا الإنسان الذي حمل أرثاً عراقياً وهو يكتب الشعر بكل جوارحه وأبعاده الانسانية، ولغته السياسية التي كانت تؤمن بالعراق العربي الواحد، الذي تسوده المحبة والبناء والازدهار مثل بقية الاوطان.

أما بدر شاكر السياب، ذلك الشاعر الذي عاش الاغتراب الاجتماعي كما عاش الاغتراب السياسي، فيقدّمه المؤلف لا بوصفه مجرّد رائدٍ للشعر الحر، بل بوصفه رمزاً للوجدان العراقي الحديث؛ شاعرٌ تمرّد على القيود الشكلية لأن واقعه كان يضجّ بالتناقضات. السياب في هذا الكتاب ليس مبدعاً وحيداً، بل صورة وطنٍ بأكمله يكتب ذاته بالدمع والحلم واللغة.ويمتد الضوء إلى روفائيل بطي، أحد مؤسسي الصحافة العراقية الحديثة، الذي رأى في الكلمة التزاماً لا مهنة، وفتح صفحات الصحف للثقافة الحرة بعيداً عن الرقابة والهيمنة. بجانبه يقف غائب طعمة فرمان، رائد القصة العراقية، الذي نقل بغداد الشعبية إلى الرواية وجعل من المنفى امتداداً للذاكرة لا انقطاعاً عنها.

من الشعر إلى التشكيل

لا يقتصر الكتاب على الأدباء، بل يتسع ليشمل رموزاً من الفنون والحقول الإنسانية الأخرى. فالشاعر والنقابي الفريد سمعان، يتجلى فيه نموذج المثقف الذي لم يفصل بين القصيدة والنضال الاجتماعي. أما الفنان التشكيلي شوكت الربيعي، فيحضر كصوتٍ لونيٍّ عبّر عن معاناة الإنسان العراقي بلوحاتٍ تشبه القصائد، فيما تطلّ ناهد الرماح بصوتها المسرحيّ الذي واجه الخوف بالحقيقة والجمال. إذ يقدّم المؤلف هذه الشخصيات لا كأفراد، بل كجزءٍ من نسيجٍ واحد هو الهوية الثقافية العراقية المتعددة. الثقافة، كما يراها، ليست نخباً متعالية، بل فضاء يتقاطع فيه الشاعر والسياسي والفنان والعالم، ليشكّلوا جميعاً ذاكرة الوطن التي لا تكتمل بغياب أحدهم.

الفكر والسياسة... وجهان للضوء الواحد

في فصلٍ آخر، يقترب الكتاب من السياسيين المثقفين الذين حاولوا التوفيق بين الفكر والممارسة. فـكامل الجادرجي يُستحضر بوصفه أحد آباء المدنية العراقية، وسعد صالح رمزاً للضمير الوطني الذي ربط بين العدالة والمواطنة. أما عزيز السيد جاسم، فيتجلّى كصوتٍ جريء للفكر الحر، دفع حياته ثمناً لكلمته، مؤكداً أن الثقافة العراقية لم تكن يوماً ترفاً بل قدراً وموقفاً.

ويحضر الدكتور علي الوردي ليشكّل محوراً مركزياً ، فهو الضمير العلمي الاجتماعي للعراق، الذي واجه مجتمعه بمرآةٍ نقدية حادّة وكشف ازدواجيته بين البداوة والحضارة. ومن خلال الوردي، يفتح المؤلف نافذة على سؤال الهوية العراقية بوصفه سؤالاً إنسانياً قبل أن يكون اجتماعياً. وفي السياق نفسه، يبرز إسم الدكتور منذر الشاوي، الوزير الأكاديمي والمثقف القانوني الذي سعى إلى تأسيس فكرٍ مؤسساتي يوازن بين النظرية والتطبيق، بين القانون والضمير، في مرحلةٍ عصيبة من تأريخ الدولة العراقية.

الهوية المتعددة... العراق بوصفه قصيدة

يولي الدكتور شعبان مساحة خاصة للشعر الكردي ممثلاً بالشاعر الكبير شيركو بيكسيه، الذي جعل من القصيدة الكردية جسراً للتواصل الإنساني، لا وسيلة للفصل القومي. هنا تتبدّى نظرة المؤلف إلى الثقافة العراقية باعتبارها فسيفساء من اللغات والرؤى، يتكامل فيها العربي والكردي والتركماني والآشوري في ضوءٍ واحدٍ متعدّد الألوان.لقد أعطى مؤلف الكتاب بشخصيات، مثّل الجواهري ذلك الوعي الشعري المتوهّج، ودوره السياسي في العراق لعقود عدة، إذ لم يكن الشعر عنده ترفاً بل موقفاً، ولا القصيدة زخرفاً بل صرخة احتجاج وعشق وانتماء. ظلّ رغم المنافي صوتاً عراقياً خالصاً يتحدّى القهر ويغنّي للحرية والكرامة الإنسانية. في حين قدّم الشاعر الثائر مظفر النواب، الذي جعل من القصيدة سلاحاً ومن الكلمة موقفاً. إمتزج في شعره الغضب بالحلم، والسياسة بالعاطفة، فكان صوت المقهورين والمستضعفين في عراق مثخن بالجراح. كتب باللهجة الشعبية والفصحى، لكنه في كليهما ظلّ مشاغباً، يجلد السلطة ويواسي الشعب،

ويعرّج  الدكتور شعبان الى الطبيب الدكتور فرحان باقر كأحد أبرز العقول الأكاديمية في ميدان الطب والذاكرة العراقية التي أرتبط بها كونه كان طبيباً للرئيس أحمد حسن البكر. جمع بين المنهج العلمي الرصين والرؤية الإنسانية في علاقاته، حيث أشار اليها شعبان من خلال لقائه به، الى العديد من المواقف السياسية التي عاشها ورصد أحداثها والتي شكلت جزءاً مهماً من تأريخ العراق السياسي المعاصر. فضلاً عن شخصيات عدة تناولها الكتاب كالعلامة السيد محمد باقر الصدر والمفكر هادي العلوي والشاعر السيد مصطفى جمال الدين والسيد محمد بحر العلوم وعبداللطيف الراوي والبروفسور شيرزاد النجار و وليد جمعة وكذلك وميض نظمي وآخرين.

بهذا المعنى، فإن (أنطولوجيا الثقافة العراقية) في هذا الكتاب ليست تجميعاً لسيرٍ متفرقة، بل مشروع وعيٍ وطنيّ يعيد صياغة تأريخ الثقافة من الداخل، من قلب التجربة الإنسانية. لا يكتب المؤلف من فوق الأرشيف، بل من داخله، مستنطقاً العصور من خلال البشر، ومضيئاً الذاكرة الجمعية عبر نصوصٍ وأصواتٍ وتجارب شكّلت وجه العراق الحديث.

الكتاب بوصفه مشروعاً ثقافياً

يُبرز كتاب (هسهسات الضوء) كيف أن المثقف العراقي ظلّ رغم العواصف، مركز الوعي الأخلاقي في المجتمع. فمن الشعراء الذين تغنّوا بالحرية، إلى السياسيين الذين حاولوا إقامة العدالة، إلى الفنانين الذين صوّروا المعاناة، يتوحّد الجميع في سعيٍ واحد هو الدفاع عن إنسان العراق .الكتاب بذلك ليس عملاً توثيقياً فحسب، بل بياناً حضارياً يعيد الاعتبار للثقافة بوصفها ذاكرة الأمة الحيّة، القادرة على ترميم ما هدمته السياسة وإحياء ما حاول النسيان طمسه.

أسلوب الكتاب ولغته

أسلوب الدكتور شعبان يمتاز بخصوصيةٍ لافتة: لغة أنيقة تجمع بين الصرامة البحثية ونبض الشعر. هو لا يروي فقط، بل يستقصي ويحلّل، ولا يستعيد الماضي بوصفه حنيناً، بل باعتباره شرطاً لفهم الحاضر. جاءت اللغة محمّلة بالإحساس والعاطفة، لكنّها لا تفقد دقّتها الأكاديمية؛ لغة تنحاز إلى الجمال من دون أن تغادر الموضوعية. إختيار عنوان الكتاب (هسهسات الضوء) لم يكن مصادفة. فالضوء هنا استعارة عن الإبداع، والهسهسة هي صوته الخافت الذي لا يُسمع إلا بالأذن التي تعي. وكأن المؤلف يقول إن الثقافة العراقية، رغم كل الصخب والخراب، ما تزال تهمس بنورها في العتمة.

عبد الحسين شعبان... المؤلف والشاهد

في خاتمة القراءة، تتجلى شخصية الدكتور عبد الحسين شعبان لا بوصفه مؤلفاً فقط، بل شاهداً ومشاركاً في صناعة الذاكرة التي يوثقها. خبرته الفكرية والقانونية، وتجربته الممتدة في الفكر العربي والإنساني، مكّنته من تقديم قراءة تتجاوز السرد إلى التأمل. لقد استند في كثير من فصول الكتاب إلى حواراتٍ ولقاءاتٍ شخصية جمعته مع الأسماء التي كتب عنها، فكانت المادة الإنسانية المباشرة هي النبض الحقيقي للنص. هذه المعايشة جعلت الكتاب أكثر قرباً من أرواح الشخصيات، وأكثر صدقاً في تصوير تجاربهم. فهو لا يكتب عنهم من بعيد، بل يستعيدهم من ذاكرته وذاكرتهم معاً.

إن (هسهسات الضوء) يمثل تتويجاً لمسيرة فكرية طويلة للدكتورشعبان، تمتد من البحث الأكاديمي إلى الهمّ الإنساني، ومن القانون إلى الثقافة العامة. إنه كتاب يزاوج بين السيرة الفردية والجمعية، بين توثيق الأثر وإحياء الفكرة، ليغدو في النهاية وثيقة حبّ ومعرفة للعراق، وشهادة على أن هذا البلد، رغم كل ما مرّ به، ما زال قادراً على أن يلد الضوء من رحم العتمة.

 


مشاهدات 91
أضيف 2025/11/11 - 12:45 AM
آخر تحديث 2025/11/11 - 3:58 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 153 الشهر 7443 الكلي 12368946
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/11 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير