الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
بريد الحكومة

بواسطة azzaman

بريد الحكومة

حسن النواب

 

يكادُ بريد الحكومة أنْ ينفجر من الأضابير المهملة وطلبات المواطنين التي تكدَّست على المكتب الفخم للمسؤول الرفيع؛ وقد تراكم عليها غبار النسيان؛ منذُ انهماك فخامته بحملته الانتخابية؛ وبدء الحوارات بين الأحزاب على المناصب الحكومية، فلقد تراكم بريد الحكومة بسبب انشغاله بإقامة المؤتمرات الشعبية ترويجاً لقائمته الذهبية كما يزعم؛ وبلقاء وجوه العشائر  وزياراته المتواترة إلى مدن البلاد لافتتاح المشاريع الخدمية فيها على حين غرَّة، بينما أدرك الناس سر هذا الزخم من افتتاح تلك المشاريع مع اقتراب موعد الانتخابات. وكلما أراد سكرتيره الشخصي أنْ يذكِّرهُ بالبريد المهمل منذُ شهور؛ يرى على ملامح مسؤوله الرفيع التعب والإرهاق والقنوط؛ فيضطر إلى تأجيل ذلك البريد إلى وقت آخر، بينما بدأت غرفة السكرتير لا تتسع إلى حجم البريد المؤجَّل؛ مما أرغمهُ إلى نقل تلك الأضابير المتخومة بالخطابات الرسمية إلى صالة استقبال الزائرين، ومع كل يوم يمضي يتضخَّم حجم البريد المؤجل؛ لأنَّ المسؤول الرفيع تشغلهُ هذه الأيام المفاوضات مع الأحزاب والشخصيات السياسية التي تزور البلاد، حتى البريد العاجل ما عاد المسؤول الرفيع يهتم به؛ بقدر حرصه على إقناع الأطراف الأخرى بضرورة بقائه في المنصب الذي لا محيص عنهُ، وبخلاف ذلك ستتحول البلاد من وجهة نظره إلى غابة يفتكُ بها القوي بالضعيف، ويسرق بها المارد قوت الفقير المسكين، حتى انتقلت عدوى إهمال البريد من المسؤول الرفيع إلى أصغر موظف في حكومته، فعندما يراجع المواطن دائرة حكومية بغية الحصول على قرض ميَّسر لبناء أرضه النائية، أو لترميم منزله المتهالك؛ أو لإكمال معاملة التقاعد؛ يجد الموظف ساهماً في عالم آخر؛ وحين يطالبه بترويج المعاملة يسمع رد الموظف بعصبية: وما جدوى إكمالي إلى معاملتك وليست هناك موازنة كما أنَّ الحكومة توقَّفتْ أنشطتها بسبب الانتخابات.

غدى البلد بأسره يعيش على أمل الحكومة الجديدة التي ستتشكَّل بعد الانتخابات.

هناك أحد المواطنين نذر كبشاً لوجه الله ينحرهُ أمام المنطقة الخضراء عسى أنْ تمضي هذه الانتخابات بسلام؛ وعلى أمل تشكيل الحكومة الجديدة ويتنفس الناس الصعداء.

ولك أنْ تسمع الهاتف الأرضي والنقَّال لسكرتير المسؤول الرفيع لا ينقطع الرنين عنهُ طوال الوقت؛ وكل المتحدثين من المستثمرين وغيرهم يسألون عن مصير مصالحهم ومشاريعهم التي تقدموا بها إلى الحكومة، وفي لحظة تمرّد غير متوقعة، قرَّر السكرتير إنجاز البريد المؤجل نيابة عن المسؤول الرفيع ومن دون علمه؛ قرأ السكرتير مذكرة مرفوعة من موظف حكومي كبير يطلب فيها تسهيل وصول الدواء للمواطنين الذين يعانون من أمراض مزمنة، وقرأ مقترح من موظف آخر بضرورة رفع الحواجز الخرسانية من بعض الأحياء السكنية؛ وقرأ، وقرأ، وقرأ السكرتير ثم أصبح يكتب كلمة موافق على جميع الطلبات التي لها علاقة بحياة الناس وبدون علم المسؤول الرفيع، بعد مضي أيام شعر ذلك المسؤول الرفيع بتبدُّل الحياة لدى الناس، وما عاد هناك من يشتكي منهم على الفضائيات، بل توهَّم كما لو أنَّهُ يعيش في بلد آخر غير بلاد أرض السواد؛ ولما استفهم من سكرتيره الشخصي عن سر هذا الرخاء الذي عمَّ البلاد فجأة، أجابهُ السكرتير مرتجفاً: بارتكابه إثماً عظيماً حين روَّجَ المعاملات المتراكمة نيابةً عنهُ؛ ولم يكن يتوقع أنَّ البلاد ستتحول من جحيم إلى فردوس ينعمُ به الناس، انتاب المسؤول الرفيع الغضب على سلوك سكرتيره الذي انزوى في ركن المكتب هلعاً وهناك عواقب وخيمة تنتظره؛ وهو يرى تبرُّم مسؤوله الرفيع الذي رفع سماعة الهاتف طالباً من جهات التنفيذ إيقاف جميع مطالب المواطنين ريثما تنتهي الانتخابات وتشكيل الحكومة الجديدة؛ ثم التفت إلى سكرتيره قائلاً: لقد اضعت النعمة عليك بتصرفك الطائش هذا؛ وفي لحظة شجاعة قال السكرتير: لتذهب حياتي إلى الهاوية مادام الناس اصبحوا ينعمون بالسعادة؛ رد عليه المسؤول الرفيع بعنف: أيها الغشيم متى ما أصبح الشعب سعيداً برغيد العيش؛ هذا يعني أنَّ المسؤول أصبح تعيساً وبلا هيبة.

خرج المسؤول الرفيع من المكتب إلى الحديقة الرئاسية الغنّاء وهو يدمدم جزعاً: لابدَّ من إعادة الحرمان إلى الشعب حتى أبقى بهيَّاً بمنصبي أمام أنظارهم، وتبقى الناس بحاجة إلى عطفي ومكرماتي.

 


مشاهدات 82
الكاتب حسن النواب
أضيف 2025/10/27 - 2:58 PM
آخر تحديث 2025/10/28 - 1:30 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 469 الشهر 19113 الكلي 12158968
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/10/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير