الراتب التقاعدي بين كرامة الإنسان ومحدودية التشريع
حسين شكران الأكوش العقيلي
في زوايا الحياة اليومية، حيث تتقاطع الحاجات مع الإمكانيات، يقف المتقاعد العراقي أمام معادلة قاسية لا تنصف عمرًا أفناه في خدمة الدولة. راتب تقاعدي لا يتجاوز 590 ألف دينار، يُفترض أن يكون مكافأة نهاية الخدمة، لكنه يتحول إلى عبءٍ شهري لا يكفي لسدّ أبسط متطلبات العيش الكريم. في بلدٍ غني بالخيرات، يضطر هذا المواطن إلى دفع 60 ألف دينار شهريًا للحصول على ماء صالح للشرب، لأن ما يُضخ من الإسالة لا يصلح حتى للاستعمال، فضلًا عن الشرب. ثم يدفع 30 ألفًا للمولدة، و35 ألفًا للإنترنت، لأن التعليم بات متوقفًا عليه، و50 ألفًا لقراءة المقاييس، و150 ألفًا لسلفة علاج عينيه، و100 ألفًا لعلاج الضغط والسكر، دون أن يتبقى له ما يشتري به كيلو لحم أو دجاجتين، لأن "الحجية" تنتظر منه مسواگًا، والحيرة تملأ مطبخها، والأفواه مفتوحة، وهو متوهدن.
هذا المشهد ليس استثناءً، بل هو انعكاس لواقعٍ يعيشه آلاف المتقاعدين الذين يجدون أنفسهم في مواجهة يومية مع الغلاء، وغياب الخدمات، وتضخم الالتزامات، دون أن يكون للتشريع التقاعدي أي مرونة أو إنصاف. فهل يُعقل أن يُخصص راتب تقاعدي لأعضاء مجلس الحكم يصل إلى 58 مليون دينار، بينما يُترك من خدم الوطن عقودًا يتقلب بين الحاجة والدواء؟
إن الراتب التقاعدي، في جوهره، ليس مجرد رقم يُصرف شهريًا، بل هو تعبير عن تقدير الدولة لمواطنيها، واعترافٌ بقيمة عطائهم. حين يُصبح هذا الراتب عاجزًا عن تغطية الماء والكهرباء والعلاج، فإننا لا نتحدث عن خلل مالي فحسب، بل عن أزمة أخلاقية وتشريعية تمسّ كرامة الإنسان. فالتشريع الذي لا يراعي ظروف الحياة، ولا يُواكب تغيراتها، يُصبح عبئًا على العدالة، ويُكرّس التفاوت بدلًا من أن يُعالجه.
المتقاعد اليوم لا يطلب امتيازات، بل يطالب بحقوقه الأساسية: ماء نظيف، كهرباء مستقرة، علاج متاح، تعليم لأحفاده، ووجبة كريمة على مائدته. هذه المطالب ليست ترفًا، بل هي صلب العقد الاجتماعي الذي يجب أن يُبنى على الإنصاف والتكافؤ. حين يُترك المتقاعد ليواجه وحده تحديات الحياة، فإننا نُفرّغ مفهوم الدولة من مضمونه، ونُحوّل الخدمة العامة إلى عبءٍ لا يُكافأ.
إننا بحاجة إلى منظومة تشريعية جديدة، تُعيد النظر في آليات توزيع الرواتب التقاعدية، وتُراعي الفروقات المعيشية، وتُعزز العدالة التوزيعية. العراق ليس بلدًا فقيرًا، بل هو غنيٌ بثرواته، لكنه بحاجة إلى إرادة سياسية وتشريعية تُنصف المواطن، وتُعيد الاعتبار للإنسان قبل الأرقام. فالمتقاعد ليس رقمًا في سجل، بل هو قصة حياة، وذاكرة وطن، وركنٌ من أركان المجتمع.
إن إصلاح التشريعات التقاعدية لا يجب أن يكون مجرد تعديل في النسب أو الأرقام، بل يجب أن ينطلق من رؤية إنسانية تُعيد الاعتبار للكرامة، وتُعزز الثقة بين المواطن والدولة. فحين يشعر المتقاعد أن الدولة تقف إلى جانبه، وتُراعي حاجاته، وتُقدّر تاريخه، فإنه يُصبح شريكًا في البناء، لا عبئًا على الميزانية.
ختامًا، إن العدالة لا تُقاس بالأرقام، بل تُقاس بمدى قدرتها على حماية الإنسان من الحاجة، وتمكينه من العيش الكريم. والمتقاعد العراقي يستحق أكثر من مجرد راتب، يستحق منظومة تحترم تاريخه، وتُخفف أعباءه، وتُعيد له الشعور بالأمان. فهل آن الأوان أن نُعيد النظر، ونُصلح ما أفسده الإهمال؟ وهل نملك الشجاعة التشريعية لنقول: كفى؟