زحمة الأحزاب
مشتاق الربيعي
تحزّب المجتمع ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ العراق الحديث. فقد أصبحت الأحزاب السياسية تنتشر بشكل لافت، حتى غدت أكثر عدداً من المشكلات التي يعاني منها البلد. هذه الكثرة لم تأتِ من فراغ، بل تعكس حالة من التشتت السياسي والفكري، وتدل على غياب المشروع الوطني الجامع الذي يحتضن الجميع تحت راية واحدة هي راية العراق.
فمع نهاية كل دورة انتخابية، نشهد ولادة أحزاب جديدة، بعضها لا يُعرف له برنامج سياسي واضح، ولا توجه وطني محدد، وكأن الغاية من تأسيسه ليست خدمة المواطن، بل خدمة أشخاص يسعون إلى النفوذ والمناصب والمصالح الخاصة. والأسوأ من ذلك، أن مصادر تمويل العديد من هذه الأحزاب تبقى غامضة، مما يثير تساؤلات كبيرة حول نزاهتها واستقلال قرارها.
في المقابل، فإن الأحزاب والشخصيات التي قارعت النظام البائد — الذي ذهب إلى غير رجعة — كانت محدودة في عددها، لكنها تمتلك مشروعاً وطنياً واضحاً، وتاريخاً من التضحيات التي لا يمكن إنكارها، مهما اختلفنا أو اتفقنا معها. لقد قدمت دماءً وتضحيات عظيمة من أجل الخلاص من الاستبداد والطغيان، وهذا ما يجعل المقارنة بين الأمس واليوم مؤلمة ومقلقة في آنٍ واحد.
إن استمرار هذا الواقع دون معالجة حقيقية سيؤدي إلى مزيد من الانقسام والضعف في مؤسسات الدولة. لذلك، ينبغي على الدولة العراقية والجهات ذات العلاقة أن تتخذ خطوات جادة لتنظيم الحياة الحزبية، ووضع قوانين صارمة تحدد عدد الأحزاب وتراقب مصادر تمويلها، وتلزمها ببرامج وطنية حقيقية تمثل صوت الشعب، لا مصالح النخب السياسية.
لقد طفح الكيل من هذه الفوضى الحزبية التي لم تجلب للعراق سوى المزيد من الخلافات والتناحر، بينما يعيش المواطن البسيط في معاناة يومية بين غلاء الأسعار وتراجع الخدمات وضياع الفرص.
إن الإصلاح يبدأ من بناء نظام سياسي متوازن، يقوم على الكفاءة لا على الانتماء، وعلى الخدمة لا على الشعارات، وعلى العمل الوطني لا على المزايدات الحزبية.
فالعراق لا يحتاج إلى المزيد من الأحزاب، بل إلى المزيد من المخلصين.
إلى من يضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ويؤمن أن حب العراق أكبر من أي حزب أو شعار.