الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ناجح بدرجة يتيم

بواسطة azzaman

ناجح بدرجة يتيم

فاضل البدراني

 

قصة طفل يعيش بين تفاصيل الطفولة المعذبة والوعي المبكر الذي فُرض عليه قسرًا، حكاية ليست مجرد “قصة نجاح طفولية” بل مأساة نفسية وانفعالية تنمو مع كل سطر، وتتحوّل إلى صوت داخلي لا يسكت حتى آخر كلمة، لتنشطر الى نجاح وحكمة مع عاطفة ووجع لن يغادر.

في دهاليز الظلام وتحت تلاطم أمواج الفكر، ينمو سراب الأمل خافتًا كوميض نجمة بعيدة هناك، في غرفة صغيرة لا تكاد تتسع للألم، يرقد طفل تجاوز بالكاد سنته الأولى في مدرسة يواجه فيها تعلّم الحروف والأرقام وكذلك المحن المعشعشة في رأسه....حضن الأم الغائب لا يفارقه، فراش نومها، دفء صوتها، رائحة يديها، إشراقة صورتها، كل ذلك يسكنه في لحظاته الهشة.

تعلم مبكرًا كيف يفك طلاسم الحروف وشيفرات كتاب القراءة الخلدونية، بالكاد بدأت يده تمسك القلم، وكان أول ما خطّه بخط مرتعش: “دار  داران  دور”. ثم رسم بطة ووزة وكرسيًا وشجرة، رموز طفولية هاربة من ألم داخلي يحاول أن ينساه.

كان يسرح بخياله، يحاول أن ينسى، لكن الحنين إلى “الديرة” والأصدقاء والناس الذين أحبهم حتى الذين لم يحبهم سابقاً لأنهم غابوا عنه، كان أقوى من النسيان. ابتعد عنهم فقط سبعة كيلومترات، لكن المسافة في قلبه كانت بحجم وطن.

في لحظة من ليالي الصيف، حين ينام الناس على سطوح منازلهم، أو في باحاتها، تمدد على فراشه وحيدًا، يحدّق في السماء ويعدّ النجوم. تساءل:

هل تراها أمي الآن؟ هل تنظر إلى السماء مثلي؟

غنّى بهمس حزين “يا ست الحبايب يا حبيبة…”، وغنّى قلبه مع النجوم، وكأنها ترقص معه في صمت، تمسح غربته.

الظلمة والضياء، الليل والقمر، مشهد متناقض، لكن في قلب طفل لم يكتمل وعيه، كانت أسئلة كبيرة تنمو بلا أجوبة، تعكس وجعًا لا يُحتمل، كان يشعر أن الهواء مختلف بعيدًا عن أمه، تلك المسافة الصغيرة تحولت إلى هوّة سحيقة بين قلبه وأمانيه.

مرت سنة دراسية، كان ناجحًا بتفوق، لكن نفسهُ تعلمْ أن الإبداع لا يولد من الألم، وفي مرات قد يولد نعم.

معلمهُ محمد خلف عنتر قال له يومًا:

“أنت تلميذ ذكي، تفكيرك أكبر من عمرك.”

ومع ذلك، لم يكن التفوق يملأ الفراغ في صدره.

سار الروتين الدراسي بسلاسة مؤقتة، وأصبح ثابتًا أن الخميس والجمعة للأم، والسبت صباحًا يودعها عائدًا إلى بيت والده. كلما مرّ الزمن، ازداد تكيفه، وتقبل تقسيم الأيام بين حبّين غير متساويين.

وفي نهاية عامه الدراسي الأول، زار أمه ومعه شهادة النجاح الباهر. كتبت المدرسة: “ناجح، نهنئكم بالنجاح الباهر.”

فاحتضنته أمه وأهدته بدلة جديدة، قميصًا، ودراجة هوائية حمراء، حجم 24. أمضى أسبوعًا كاملاً من السعادة، لكن في اليوم الأخير من الإجازة، تسللت السوداوية إلى قلبه، وقرر تأجيل الرحيل ليوم آخر… ثم آخر.

الكبار قالوا له: “اذهب، فالإجازة مثل خدمة الجندي، تحتاج انضباطًا.”

لكن الصغار، أصحابه في الشارع، قالوا له: “ابقَ، لا تذهب.”

واختار الطفل رأي أصدقائه، اختار البقاء.

كان كمن دخل في “حالة هروب”، بمفهوم الجندية. لكنه طفل… لم يكن يملك سلاحًا سوى دموعه، ولا قلبًا قادرًا على التحمل أكثر.

مرت أيام، وحين بدأ العام الدراسي الجديد 1974-1975، عاد إلى المدرسة، إلى الصف الثاني، ومعه معلمه السابق الذي انتقل معه، واستمر التفوق. في نصف السنة، جاء ترتيبه الثاني، وحافظ عليه حتى النهاية.

تكيف تدريجيًا مع حياته الجديدة، وتحوّل إلى الطبيب المعالج لجراحه. سأل نفسه يومًا:

“هل يمكنني أن أتكيف مع هذا الظرف؟”

وكان يمني نفسه بأن يكبر يومًا، يصبح سيد قراره، ويعود ليعيش مع أمه إلى الأبد.

وبينما تقدم في دراسته حتى الصف الخامس، كان قلبه لا يزال معلّقًا بها. وعندما حصل على شهادته، وكانت نتيجته: المرتبة الثانية، طار فرحًا.

ارتدى أجمل ما لديه، وحمل شهادته وموافقة الأهل على قضاء أسبوع عند أمه، وركب دراجته الحمراء الصغيرة، فرحًا، حرًا، يتجه نحوها.

كان الوقت الرابعة عصرًا، والتاريخ 22 حزيران، 1978.

في الطريق، التقى بصديقه وقريبه منذر. استوقفه منذر، وجهه مرتبك، وصدره يحمل خبرًا ثقيلًا.

قال له الطفل: “ماذا هناك؟ أمي تنتظرني!”

ردّ منذر بصوت مرتعش: “لحظة…”

تسارع قلب الطفل. نظر إليه في توجس، وسأله بهلع:

“أمي ماتت؟”

منذر قال: “لا… لكنها…”

الطفل، وعيناه ترتجفان: “أرجوك، قل لي… ماتت؟”

منذر قالها أخيرًا:

“أمك تزوجت.”

سقط الطفل من دراجته، وأُغمي عليه.

حين عاد إلى وعيه، كانت الدنيا قد انقلبت. دموعه اختنقت، قلبه تحطم، وشهادته التي كان يفتخر بها، مزّقها أمام باب بيت أهله.

اجتمع الجميع حوله، يحاولون مواساته، ووالده احتضنه وقال له: “أنا أمك، وأنا والدك.”

لكن الطفل لم يكن يسمع، لم يكن يرى، كان في صدمة لا توصف.

عاد يبكي، بمرارة، حتى أصيب بحساسية في جلده من شدة الألم. وبمرور الأيام، تعلم أن يتعايش مع وضعه، أن يعتمد على نفسه، أن يخبئ أسراره في صدره.

وأدرك مبكرًا أن لا أحد يبقى، لا أم، ولا أب، ولا قريب،

إلا الله.

هو وحده يبقى، لا يرحل، لا يتغير، هو الحنان، هو الأمان.


مشاهدات 52
الكاتب فاضل البدراني
أضيف 2025/10/12 - 11:14 PM
آخر تحديث 2025/10/13 - 3:11 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 74 الشهر 8254 الكلي 12148109
الوقت الآن
الإثنين 2025/10/13 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير