قصة قصيرة
خذلان
عمار طاهر
رغم ضجيج الواقع وصخبه تتساقط أيامه كأوراق الخريف، فالساعات رتيبة لا ثابت فيها إلا الوقت، اما الحياة فتدور حوله مثل قطب الرحى، تسحق ما تبقى منه، بعد أن ذبلت احاسيسه، وانطفأت مشاعره.. يحسبه الرائي وقد تجاوز عمره بأعوام.. يسير بخطى مثقلة وينظر الى الجدار، فيرى روحه وقد طعنت بكل الخواصر، لا موضع فيها الا وقد نالته طعنة نجلاء.
لا يطمح ان يعيش يومه، بل يفكر كيف ينجو منه؟ فمجرد التصور ان يكون بخير بوجود من يخونه او يضمر له العداء يحتاج الى قوة نفسية هائلة لا يمتلكها الا الناجون من فخاخ الشر.. وجوه وأقنعة، ومشهد فوضوي، وسيرك يعج بالمهرجين والمنافقين.. سلبته البراءة، وغيرت طباعه الى الابد، فهو يخشى ظله، ويحبس كلماته، ويراقب سكناته.. قسوة الأيام لطخت بياض قلبه بلون رمادي، يراه من يراه أعتى الظالمين، وهو في داخله أتعس المظلومين.
يشعر أحيانا كأنه شجرة يستظل بها الاخرون، ويرتشفون رحيق ثمارها، في حين ان جذورها تموت وجعا وحزنا.. يبكي بصمت أحيانا، ويبتسم بدمعة، يندب أحلامه، وينعى اماله، يحاول ان يبقى على قيد قيمه الأخلاقية، وان لا يسقط مضرجا بمبادئه الإنسانية، ويسعى لأن يتأقلم مع محيطه، ويعد ذلك من أعظم إنجازاته، فان تبقى بكامل قواك العقلية، وتتعامل بشرف مع من لا يمتلك معنى الشرف.. هو أكبر انتصاراتك الشخصية.
سأل نفسه، وهو يحاورها عن عبثية البقاء في مستنقع نفسي، لا مساحة فيه للسعادة، ولا مفر منه الى النجاة، فتحدثه بالثبات والصمود وعدم الانكسار.. تزين له الواقع المر بمساحيق منتهية الصلاحية، وتغريه ان يراه عبر عدسات ملونة.. محدبة او مقعرة.. وتعظه أن يحب خصومه، يسامحهم، ويتحاوز عن خطاياهم بنفس غير امارة بالسوء.
قرر ذات شجن أن يبادلهم المكر والخديعة وكتابة التقارير العلنية والسرية، فلم يطاوعه يراعه، وأبت نفسه ان تتبادل الأدوار، وتنحدر الى ضحالة حجمهم، وضآلة قدرهم، كان ثمة شيء عالق في الروح.. لا ضعفا ولا خوفا.. يرفض الانصياع لما توسوس به النفس، وتوحي به من شر.. كان صوتا مدويا يحذره ان لا يكون وقحا مثلهم، وان لا يسلبه هؤلاء صفاته النبيلة.
قرر أن يحلل أسباب الكره العميق، فلم يجد مسببات واضحة، وتوصل في نهاية المطاف الى أن بعض الحاقدين قد درس تفاصيله جيدا، وبحث في شخصيته، وأراد ان يجاريه لكنه عجز عن ذلك.. لخلل فيه، استنتج أنه يوقظ فيهم عقد النقص المكبوت، وأن نجاحه يذكرهم بفشلهم، وما يفقدونه في ذواتهم، لذا يهاجمون ما يثير اعجابهم سرا.
فكر عميقا، وهو يسير على غير هدى، يتطلع بالوجوه بدون وعي، ويتساءل عن بعض من يودهم.. ظن ذات وهم انهم يمتلكون الوفاء نفسه، ناصروه في العلن، وخذلوه في السر.. باعوا وده بثمن بخس، ليشتروا الأوهام والاحلام.. حزم امره وحولهم الى مقبرة داخل عقله، ليكونوا مع الأشياء التي تموت في داخله.
وفي خضم معركته الضارية مع نفسه والأخرين، تمر بخاطره بعض الوجوه والمواقف، تمكث في ذاكرته المستنزفة، فتبدد بعض الأسى في قسماته مثل سحابة ماطرة تبث في ذاته صوت الامل، وتبعث في بعضه حب المكان، فالأرواح النقية تملك قدرة التخاطر الإنساني برسائلها حتى وان كانت ايماءة او التفاتة او كلمة عابرة في حديث عابر.
اما من يحب فقد تناءت به المسافات.. وضاعت عنه المحطات.. واتسعت الفجوة.. ذوت العواطف وظلت الذكريات وبقايا المشاعر.. أطيافا من الماضي تتقافز فتوقظ القلب للحظات لكن سرعان ما تنطفئ. حزنا عميقا يوجع الروح.. ساعات الليل، ووقت الوحدة.. فثمة اشخاص احتلوا مكانا في قلبه الى الابد من دون ان يكون لهم مكان في حياته. لن يتوقف عن حبهم بعد أن امتزجت روحه بأرواحهم اقتربوا ام ابتعدوا.. فهم في فؤاده دائما.
ظل يدور في فلك السؤال يجادل نفسه ويحاورها الى ان بلغ سن المعاش، راوده ذلك الشعور الغريب بعد ان هدرت أيامه، وضاعت أحلامه.. ما بين الوفاء والخذلان، فقد أضحى كخيول الحكومة الهرمة، تنتظر الخلاص عبر رصاصة الرحمة، بعد سنوات من الركض والخدمة الشاقة.