الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإعلام السيبراني وتأثيره على إستراتيجيات الحرب النفسية والرقمية

بواسطة azzaman

الإعلام السيبراني وتأثيره على إستراتيجيات الحرب النفسية والرقمية

عصام البرّام

 

في عصر تتسارع فيه التقنيات وتتداخل فيه المفاهيم بين الواقع والافتراضي، لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الخبر أو صناعة الرأي العام، بل تحول إلى سلاح استراتيجي يخوض من خلاله الفاعلون الدوليون وغير الدوليين حروبًا غير تقليدية تتجاوز حدود الجغرافيا والسيادة. الإعلام السيبراني، بوصفه نتاجًا لهذا التطور، أصبح أحد الأعمدة الرئيسية في تشكيل استراتيجيات الحرب النفسية والرقمية، بل ويمثل في كثير من الأحيان واجهة الصراع ومختبره الأول. فما الذي يجعل هذا النوع من الإعلام مؤثرًا إلى هذه الدرجة؟ وكيف يتم توظيفه ضمن منظومات الحرب الحديثة؟ ولماذا أصبح امتلاك ناصيته من أهم أدوات الردع والهجوم في آنٍ معًا؟

الإعلام السيبراني هو ذلك الشكل الجديد من الإعلام الذي ينشط بشكل رئيسي على الفضاء الرقمي، متخذًا من منصات الإنترنت والذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي أدواته الأساسية. ما يميزه عن الإعلام التقليدي، ليس فقط بنيته التقنية أو طبيعة انتشاره، بل أيضًا قدرته الهائلة على الاستهداف، وسرعة الانتقال، ومرونة التوظيف في حملات التأثير والتضليل والتوجيه، مما يجعله بيئة مثالية لخوض حروب نفسية تستهدف الوعي الجمعي، وتفكك التماسك الاجتماعي، وتزرع الشك في النفوس، وكل ذلك من دون طلقة واحدة.

رسائل خفية

لقد أعادت الحرب النفسية تعريف نفسها في العصر الرقمي، فهي لم تعد مقتصرة على بث الشائعات أو التحريض عبر منشورات ورقية أو إذاعات موجهة كما كان الحال في حروب القرن العشرين، بل أصبحت عمليات رقمية معقدة تبدأ بتحليل البيانات الشخصية على نطاق واسع، ثم إنتاج محتوى موجه بدقة فائقة، يوصل رسائل خفية أو مباشرة تستهدف التأثير على الرأي العام، أو إحباط المعنويات، أو تشويه صورة الخصم، أو حتى دفع الشعوب لاتخاذ مواقف معينة دون وعي بأنها مستهدفة في معركة سيكولوجية، وهنا يظهر دور الإعلام السيبراني كأداة فعالة في تنفيذ هذه العمليات، إذ يمكن لفيديو قصير، أو تغريدة، أو منشور على موقع إلكتروني مشبوه، أن يخلق تأثيرًا يتجاوز ما كانت تصنعه حملات بروباغندا كاملة قبل عقود.

تتجلى خطورة الإعلام السيبراني في قدرته على اختراق المجال المعلوماتي للدول والمجتمعات، وإعادة تشكيله بما يخدم أهداف المهاجم، فالحدود السيادية لم تعد قادرة على وقف تغلغل المحتوى الرقمي، خاصة مع وجود شبكات ما يعرف (الذباب الإلكتروني) والجيوش السيبرانية، والحسابات المزيفة، التي تديرها جهات محترفة وتستخدم الذكاء الاصطناعي لتضليل المستخدمين أو تأجيج النزاعات. في حالات كثيرة، شهدنا كيف اندلعت أزمات داخلية في دول مستقرة نتيجة محتوى تم تضخيمه عبر الإعلام السيبراني، وكيف تشكلت موجات من الخوف أو الغضب الجماعي بسبب معلومات مزيفة، أو تسريبات مشكوك فيها، أو مقاطع مجتزأة من سياقها. ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما حصل في العديد من الدول خلال الانتخابات أو الاحتجاجات الشعبية، حيث تم استخدام الإعلام السيبراني لتوجيه المزاج العام وتفجير الشارع.

لقد شكلت الحرب الرقمية، بصفتها الصيغة الأكثر تطورًا للصراع في العصر الحديث، لا تقتصر فقط على الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنية التحتية، بل تشمل أيضًا الحرب على العقول والوعي. في هذا السياق، يعد الإعلام السيبراني رأس الحربة في المعركة، إذ يستخدم كأداة اختراق معرفي وثقافي، تسهم في تغيير المفاهيم، أو خلق واقع بديل، أو إرباك الخصم من الداخل. فالجهات الفاعلة لم تعد تركز فقط على نشر الأكاذيب أو التضليل، بل على زرع الشكوك في المعلومة الصحيحة، وخلق تعددية سردية تجعل المتلقي في حالة تشويش دائم، غير قادر على تمييز الحقيقة من الزيف. وهذا ما يضعف ثقة المواطن في دولته ومؤسساته، ويخلق فراغًا معلوماتيًا تستغله القوى المعادية لصالحها.

إن الاستراتيجيات السيبرانية الحديثة تعتمد بشكل متزايد على الدمج بين تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والإعلام الموجه. فعبر تتبع سلوك المستخدمين وتحليل تفضيلاتهم، يمكن إنتاج محتوى مخصص يستهدف فئات بعينها، بلهجتها واهتماماتها، وبما يتماشى مع توجهاتها النفسية والثقافية. هذا التخصيص يجعل الرسائل أكثر فاعلية، ويصعب مقاومتها، لأنها تبدو وكأنها نابعة من الداخل لا مفروضة من الخارج. وهنا يتحول الإعلام السيبراني من مجرد قناة بث إلى منظومة سيطرة وتحكم ناعم، تمهد الطريق لعمليات التأثير العميق التي لا يشعر بها الجمهور إلا بعد أن تكون قد أتمت دورها التخريبي.

إضافة إلى ذلك، فإن الإعلام السيبراني لا يعمل في فراغ، بل يتغذى على الأزمات الحقيقية ويضخمها، مستغلاً نقاط الضعف في المجتمعات المستهدفة، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. فعندما تندلع أزمة سياسية مثلًا، تبدأ أدوات الإعلام السيبراني في نشر نظريات المؤامرة، والتشكيك في النوايا، وبث الإحباط، مما يؤدي إلى فقدان الثقة في المسار السياسي، ويعمق الانقسامات الداخلية. وفي الأزمات الاقتصادية، يتم تضخيم المخاوف، وترويج الإشاعات حول الانهيارات، ودفع الناس إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية. هذا التفاعل بين الأزمة الواقعية والتضخيم الإعلامي السيبراني يخلق بيئة خصبة لنجاح استراتيجيات الحرب النفسية التي تستهدف كسر إرادة الشعوب من الداخل.

فضاء سيبراني

من المهم الإشارة إلى أن الإعلام السيبراني لا يُستخدم فقط من قبل الدول الكبرى أو الأطراف التقليدية في الصراع، بل أصبح في متناول جماعات غير حكومية، وميليشيات، وحركات متطرفة، بل وحتى أفراد يملكون المعرفة التقنية والتمويل اللازم. وهذا ما يضاعف من تعقيد المشهد ويجعل التهديد أكثر انتشارًا وعشوائية. كما أن طبيعة الفضاء السيبراني المفتوحة، وضعف الرقابة عليه، وعدم وجود قوانين دولية رادعة، كلها عوامل تجعل من الإعلام السيبراني ساحة حرب غير متكافئة، فيها يمكن لطرف صغير أن يحقق تأثيرًا ضخمًا دون أن يظهر بوضوح من أين جاء أو من يقف وراءه.

في ضوء هذا كله، بات من الضروري أن تضع الدول استراتيجيات متكاملة لمواجهة التهديدات الإعلامية السيبرانية، لا من خلال الرقابة التقليدية التي ثبت فشلها، بل عبر بناء وعي مجتمعي حقيقي، وتعزيز مناعة الجمهور تجاه التضليل، وتطوير أدوات الكشف المبكر عن حملات الحرب النفسية. كما أن الاستثمار في الإعلام الوطني القادر على إنتاج محتوى عالي الجودة، سريع الانتشار، وموثوق، يمثل خط الدفاع الأول ضد محاولات اختراق العقول والتلاعب بالحقائق. ولا يقل أهمية عن ذلك التعاون الدولي في مجال أمن المعلومات والسيطرة على الفضاء الرقمي، بما يحد من استخدامه كأداة للحرب والعدوان.

لقد تغير مفهوم الأمن القومي في ظل الإعلام السيبراني، ولم يعد الدفاع عن الحدود كافيًا، بل أصبح الدفاع عن الوعي الجمعي أولوية قصوى. فالحروب الحديثة لا تبدأ بإعلان عسكري، بل بمنشور أو تغريدة أو مقطع فيديو، وقد يكون التأثير المعنوي الذي تحدثه أكبر من أي قنبلة. إن من يربح معركة الرواية، ويملك السيطرة على المحتوى والمعلومة، يملك اليد العليا في المعركة. لذلك، فإن فهم الإعلام السيبراني، ومتابعة تطوراته، وبناء قدرة على التعامل معه، ليس ترفًا بل ضرورة وجودية في عالم يتغير فيه كل شيء بسرعة، ويبقى الوعي هو الهدف الأسمى لكل من يسعى للهيمنة أو التحرر.

لذا، يمكن القول إن الإعلام السيبراني أعاد صياغة قواعد الاشتباك في الحروب النفسية والرقمية، وجعل من الكلمة أداة اختراق أقوى من الرصاصة، ومن الصورة وسيلة إسقاط أسرع من القذيفة، ومن (اللايك) سلاحًا في معركة كبرى لا يسمع فيها صوت المدافع، ولكن تُخسر فيها الدول وتنهار المجتمعات بصمت، إنها معركة الوعي، والإعلام السيبراني هو ساحتها.

 


مشاهدات 66
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/09/27 - 2:03 PM
آخر تحديث 2025/09/28 - 2:07 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 58 الشهر 19994 الكلي 12037867
الوقت الآن
الأحد 2025/9/28 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير