حين تُصبح السيولة سراباً المتقاعد بين الجوع والسياسة
حامد الضبياني
لم يكن المتقاعد العراقي يتخيل أن رحلة العمر التي قضى نصفها في الخدمة العامة، وفي المعسكرات، وفي دوائر الدولة، ستنتهي به واقفاً في طابور انتظار طويل عند أبواب المصارف، يترقب خبراً عن راتبٍ لم يعد ميسوراً كما كان. وزارة المالية تتحدث ببرود عن غياب السيولة النقدية، وكأن الأمر حدث عابر، بينما الحقيقة التي يعرفها المواطن من خلال الألم لا من خلال البيانات الرسمية، أن السيولة لم تذهب إلى الغيب، بل تبعثرت بين دهاليز السياسة والاقتصاد، وتاهت في طرقات غير معلومة، حتى غدت مجرد وهم، وسراب يطارد العطشى في صحراء الوطن.يتساءل العراقي وهو يتابع الأرقام الصادمة لمزاد العملة في البنك المركزي، الذي يبيع يومياً أكثر من ربع مليار دولار، عن سرّ هذه المفارقة: كيف يعجز بلد يفيض بالدولارات عن دفع رواتب أبنائه؟ الإجابة التي لا تعلن رسمياً لكنها معروفة في أوساط الخبراء، هي أن العملة المحلية لم تعد كلها صافية، بل دخلتها كميات مزورة عبر مصارف تابعة لنفوذ خارجي، تعمل بواجهات عراقية لكنها في حقيقتها امتداد لمصالح خارج الحدود. هذه المصارف تشتري الدولار، تهرّبه بعيداً، وتترك أوراقاً مزورة يجمعها البنك المركزي ثم يتلفها، ليكتشف المواطن فجأة أن سيولته الوطنية تحولت إلى رماد، وأن الجار المحاصر قد وجد في الداخل من يخدمه، فيما الجائع في الداخل يمد يده ولا يجد سوى الريح.
المتقاعد الذي أفنى عمره في خدمة الدولة ليس خبيراً بالاقتصاد، لكنه يعرف أن لقمة عيشه أصبحت أسيرة لعبة أكبر منه، لعبة تتشابك فيها خيوط السياسة الخارجية مع عجز الإدارة الداخلية، حتى صار راتبه مجرد ورقة تنتظر توقيعاً مؤجلاً أو قراراً مصلحياً. وهو يتذكر أن رئيس الوزراء الذي يقف اليوم في صدارة المشهد كان بالأمس القريب من أبرز من دافعوا عن حقوق المتقاعدين، وكان يرفع صوته بضرورة تطبيق القوانين التي تضمن لهم حياة كريمة، وكان يستشهد بالمادة ستة وثلاثين وأربع عشرة، ويعلن أنه لن يسكت عن ظلمهم، لكنه حين وصل إلى الكرسي تغيّر الخطاب، وانقلبت الموازين، وإذا بالمدافع يصبح صامتاً، وإذا بالوعود تتحول إلى دخان يتلاشى في الهواء.
إن المتقاعد العراقي يقارن بمرارة بين وضعه وما يراه في العالم من حوله، حيث يحصل الطفل في أوروبا على إعانات تفوق ما يتقاضاه هو بعد عشرات السنين من الخدمة، وخاصة أبناء رفحاء الذين خرجوا في ظروف مختلفة يتقاضون ضعف راتب من دافع عن حدود الوطن وأمنه. في الوقت الذي يقف هو فيه أمام شباك الصرف، ليدخل عبر مكاتب التحويل التي تحسب الدولار بأربعة أضعاف قيمته، فلا يكاد يصل راتبه بين يديه حتى يتبخر. وكأن العمر كله انتهى في صفقة غير عادلة، صفقة جعلت من الشيخوخة جوعاً، ومن التضحية خيبةً، ومن الولاء للوطن مدعاةً للعوز.
الأزمة لم تعد اقتصادية وحسب، بل أصبحت سؤالاً فلسفياً عن معنى الدولة نفسها: ما جدوى دولة لا تفي بحقوق أبنائها؟ ما جدوى وطن يُقدَّم على مذبح المصالح الخارجية، بينما المتقاعد الذي حمل سلاحه يوماً أو جلس خلف مكتبه عقوداً طويلة يمد يده لأولاده خجلاً؟ هل السيولة ورق يتلف في أقبية المصارف أم أنها روح الثقة بين المواطن والدولة؟ فإذا تلف الورق فربما يعوض، أما إذا تكسرت الثقة فكيف ترمم؟
لسنا ضد حسن الجوار، ولا ضد تبادل المنافع، لكن هل يجوز أن يضحي بلدٌ بسيولة شعبه من أجل خدمة غيره؟ هل يجوز أن يصبح المتقاعد ضحية لعبة دولارات تتسرب إلى الخارج، فيما هو يبحث عن ثمن الدواء ورغيف الخبز؟ إنها مأساة أخلاقية قبل أن تكون أزمة مالية، مأساة تختزلها صورة رجل مسن يجلس على كرسي متهالك في رصيف أحد المصارف، ينتظر خبراً عن راتبه المؤجل، بينما الأطفال في بلدان أخرى يتقاضون إعاناتهم بانتظام دون قلق ولا انتظار.لقد غدا المتقاعد في العراق شاهداً على فلسفة قاسية، فلسفة تقول إن الكرسي حين يُمتلك يتحول إلى جدارٍ من الصمت، وإن السيولة حين تهرب تصبح مثل السراب، تلمع في الأفق لكنها لا تروي العطش. وبين الجدارين يقف المتقاعد، يطرق بيده العجوز على باب مغلق، ويسأل: هل أستحق بعد كل هذه السنين أن أصبح رقماً مؤجلاً، وأن يتحول راتبي إلى لغز سياسي، وأن أعيش شيخوختي أسيراً للجوع والانتظار؟..هكذا يُختصر المشهد: وطن يفيض بالثروات، وبنك يبيع بالدولار كل يوم، وساسة يوزعون الوعود، ومواطن متقاعد لا يملك سوى أن يعد أيامه بانتظار راتب لم يأتِ. وربما يستطيع البنك المركزي أن يتلف ورقة مزورة، وربما يستطيع المسؤول أن يجمد مادة قانونية، لكن لا أحد يستطيع أن يتلف صرخة الجائع حين يكتشف أن كل ما ضحى به صار مجرد سراب.